تستقبل ثلاث عواصم عربية هي تونس والقاهرة وعمان، الأسبوع المقبل وزير الدفاع الأمريكي “ليون بانيتا”، الذي سيدشن جولته الشرق أوسطية التي يزمع القيام بها بزيارة لتونس، كي ينهيها في تل أبيب. هذا ما أفصحت عنه دوائر وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاغون) على لسان المتحدث باسمها جورج ليتل، والتي اعتبرت، حسب أقوالها “إن تغيير النظامين في تونس ومصر يمثل فرصاً جديدة للتعاون في المجال الأمني”. أما في القدس وعمان، على وجه التحديد، فإن الوزيرالأمريكي سيجري محادثات “مع حلفاء قريبين يتقاسمون قلقنا حيال سوريا وإيران”، على حد قول ليتل.

قراءة ما سبق الجولة من تصريحات، ترغم من يتابعها على قراءة مساراتها، من خلال ربطها بزيارت أخرى قام بها، وتصريحات مرافقة أدلى بها، مسؤولون في وزارة الدفاع أيضاً بمن فيهم بانيتا ذاته، فقبل أيام أنهى نائب وزير الدفاع الأمريكي أشتون ب. كارتر، زيارة خاطفة إلى الهند في إطار جولته الرسمية الأولى فى منطقة آسيا- الباسيفيك، حيث ناقش، وفقاً لبيان صحفي صادر عن المركز الأمريكي في الهند “مع مسؤولين حكوميين رئيسين وقادة صناعة الدفاع كيفية عمل الولايات المتحدة والهند بشكل وثيق لضمان الأمن والازدهار في القرن الحادى والعشرين”. والمقصود هنا، بطبيعة الحال، “أمن وازدهار” منطقة الشرق الأوسط، بما يخدم مصالح واشنطن في هذه المنطقة، ويخضع للاستراتيجية الأمريكية تجاهاً. سبق ذلك التصريح، وتحديداً في 18 يوليو 2012، ما قاله بانيتا بشأن الأوضاع في منطقة الخليج العربي، بأن “الولايات المتحدة تملك القدرة العسكرية للتغلب على أي محاولة إيرانية لإعاقة حركة التجارة البحرية في منطقة الخليج الغنية بالنفط وأنها ستحمل طهران المسؤولية بصورة مباشرة عن أي تعطل في الملاحة”. كما سبقها أيضاً لقاء مفاجئ وخاطف تم بين “وزير الدفاع الأمريكى ليون بانيتا، مع نظيره البريطانى فيليب هاموند، فى مقر وزارة الدفاع الأمريكية لبحث العديد من القضايا من بينها دعم العلاقات بين البلدين فى المجال العسكرى”. تزامن ذلك مع تصريح مواز للبنتاغون جاء فيه أن المخاوف الأمريكية “بشأن الوضع الأمني في المنطقة، دفع الولايات المتحدة إلى دعم وجودها العسكري، وإلى نقل المجموعة الهجومية لحاملة الطائرات ستنيس إلى الخليج قبل اربعة اشهر من الموعد المقرر من اجل الحفاظ على مستويات القوة العسكرية الحالية”. وفي مطلع هذا العام، وعلى متن طائرة كانت تقله إلى سنغافورة، اعتبر وزير الدفاع الأمريكي ليون بانيتا، “أن أي تدخل عسكري في سوريا يجب أن يحصل على دعم الأمم المتحدة، (مشيرًا في الوقت نفسه)، إلى أن أعمال العنف التي شهدتها البلاد (سوريا) مؤخرا لا يمكن التسامح معها”.

جملة تلك التصريحات، وعندما تؤخذ في سياق الجولة التي ينوي بانيتا القيام بها إلى الشرق الأوسط، تنذر برغبة أمريكا أن تسير الأمور في هذه المنطقة بما يضمن الأهداف التالية، التي غالباً ما تغلف بالتشديد على البحث عن الأمن والاستقرار:

1.مع اقتراب حسم الأمور في سوريا، فمن الطبيعي أن تحرص واشنطن على أن يتم ترتيب الأوضاع فيها بما يتفق وحماية مصالحها،أي أمريكا، وأن لا يكون ذلك بعيداً عن توجهاتها المستقبلية في المنطقة. ومن ثم فهي، تسعى من الآن، كي تكون خطواتها متناسقة، أو، كحد أدنى، غير متنافرة مع دول صاحبة قرار في التأثير على أي النتائج المحتمل أن يؤول لها الصراع المتصاعد، والذي يقترب من نهاياته الحاسمة، في الساحة السورية. ما تريد واشنطن أن تضمنه هنا، أن يسير أي من السيناريوهات الأكثر حظاً، في سكة حماية تلك المصالح، والتي ليست بالضرورة متطابقة مع تلك التي يريدها الشعب السوري، ومن ثم فهي تبذل قصارى جهودها، كي تحظى خططها بنصيب الأسد من اقتسام “الكعكة السورية”، عندما يحين وقت توزيع مغانم حربها الدائرة اليوم. 2.قبول واشنطن بالنتائج التي آلت إليها الصراعات في مصر، ومن قبلها في تونس، ووصول الإسلام السياسي في البلدين إلى سدة الحكم، يجبرها على أن تخطط، وتنسق، كي تضمن، وفي هذه المرحلة المبكرة من حسم الصراعات فيهما، موافقة العاصمتين، تونس والقاهرة، أو كحد أدنى عدم اعتراضهما، على أي مشروع أمريكي يريد وصد الباب أمام أية محاولة تغلغل في المنطقة لدول كبرى أخرى منافسة من أمثال الصين أو روسيا، عن طريق الجبهة السورية، لما لكلتيهما من جذور قديمة عميقة تصل أعمارها لما يزيد على نصف قرن، وخصوصاً في المؤسسة العسكرية السورية، وهى الجهة الأكثر تنظيماً، حتى الآن، في سوريا، يليها جماعة الإخوان في الترتيب، من حيث التنظيم والنفوذ. ومن هنا فليس هناك من جهة أقرب لتلك الجماعة من إخوان مصر و “حزب النهضة” في تونس. 3.في هذه المرحلة، الشديدة الحساسية، والبالغة الدقة، من خلط الأوراق، تحرص واشنطن على ضبط خطوات الكيان الصهيوني، بطمأنته بأن أي من السيناريوهات المحتملة لنتائج صراعات الساحة السورية، لن تشكل خطرا عليه في المستقبل المنظور، كحد أدنى، ومن ثم فليس هناك من داع لأن يقدم على خطوة ذاتية، يمكن أن تتنافر مع المشروع الأمريكي من جهة، أو حتى تعيق من جركته، فتدخل المنطقة في دوامة نزاعات من نمط مختلف، بعيد عما تراه هي مناسب لمشروعاتها الشرق أوسطية. باختصار تريد واشنطن أن تكون اللاعب الدولي الرئيس في منطقة الشرق الأوسط في هذه المرحلة، كي يتسنى لها ترتيب الأوضاع فيها بما يضمن لها اليد الطولى في رسم الخط، وتنفيذ البرامج، كي تأتي منسجمة مع خططها هي، وخادمة لبرامجها. وإذا ما قدر للمشروع الأمريكي أن ينجح، فنحن على أبواب مشروع في سوريا، شبيه إلى حد بعيد بذلك الذي وضعته الولايات المتحدة للعراق عندما أطاحت بنظام صدام، والذي حول العراق من دولة لها ثقلها في المنطقة، وفي صنع القرارات المتعلقة بها، إلى مجموعة جزر متناثرة في أرخبيل سياسي مشلول، ينزف من الداخل، ويرتهن إلى الخارج، وتحديداً للولايات المتحدة، ولا يبتعد كثيراً عن السيناريو الأفغاني، الذي حول كابول، هي الأخرى، إلى مزرعة أمريكية، بغض النظر عن الخسائر البشرية الطفيفة، التي تضخمها آلة الإعلام الأمريكية، في كلا البلدين. مطالعة، حتى وإن كانت سطحية وخاطفة، للحالة السورية، تنذرنا بأنه ربما تكون دمشق هي العاصمة الثالثة بعد بغداد وكابول، من حيث التمزق، والشلل، والوقوع في براثن قيود أسر النفوذ الأمريكي، الواضح السافر، أو المموه المتخفي. تتفرد هنا دمشق سلبياً، بمتاخمتها لحدود الدولة العبرانية، الأمرالذي يسهل على واشنطن الاستعانة بتل أبيب عند الحاجة لإشهار العصا الغليضة في وجه أي من القوى التي سيؤول لها الصراع في سوريا، فيما لو حاولت التحرر من تلك القيود، أوالتعدي على مشروعات واشنطن. نذر شؤم توحي بها جولة بانيتا للمنطقة، نضع أيدينا خشية أن تنال حظها من النجاح المدمر للمستقبل العربي المنظور