منذ سنوات عديدة تمتد لما قبل الأزمة المفتعلة التي شهدتها البحرين في فبراير 2011 وسمو ولي العهد يحافظ على عادته الرمضانية في زيارة مختلف المجالس في مدن وقرى البحرين، يلتقي خلالها وجهاء هذه المناطق وأبناءها وعامتها ويتبادل معهم وجهات النظر في المسائل المتعلقة بالشأن المحلي السياسي والاجتماعي وكذلك الاقتصادي والخدمي والمعيشي وغيرها.
هذه العاده التي انتهجها سموه حفاظاً على إرث الآباء والأجداد، حيث كانت هذه المدارس الرمضانية ملتقى يجمع أبناء الوطن كبيرهم وصغيرهم غنيهم وفقيرهم؛ فيها تطرح قضايا وتناقش مواضيع وتحل معضلات وتجبر خواطر ويحتكم خصوم لصوت العقل والحكمة وتغليب مصلحة الجماعة على منافع الفرد، وكثيراً ماخرج من دخلها وفي نفسه شيء على جار أو شريك أو قريب وهو لايحمل له إلا المحبة والصفح، إن هذه ليست قصصاً وحكايات الجدات، بل واقع عاشه أجدادنا وآباؤنا، ومازال منهم من يحمل عن ذلك قصصاً شخصية أو حوادث شاهدها أوعاصرها.
وعلى نفس النهج كانت زيارات سمو ولي العهد، وفيها تطرح قضايا رئيسة تهم الناس وتشغلهم منذ سنوات مضت، ولأن لا شاغل لنا في هذه الأيام سوى الحديث عن الأوضاع المؤلمة الأمنية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي خلفتها الأزمة والتي قسمت المجتمع وأبناءه بشكل لم تشهد له البحرين مثيلاً، فصارت الطائفية والمناطقية والمواقف السياسية الداخلية والخارجية والأصول العرقية هي التي تجمع الناس أو تفرقهم، كان لابد لحديث سموه في تلك الزيارات أن يتطرق لكل هواجس الناس تلك، خاصة وأن البسطاء منهم من مختلف الأطراف ممن ليسوا على تمرس بالسياسة وخفاياها ودهاليزها وألاعيبها هم الأكثر تأثراً بها وخوفاً من تبعاتها وقلقاً من استمرارها.
ولأن سمو ولي العهد وفي كل مواقفه ما خير بين أمرين إلا اختار أكثرهما حفاظاً على السلم ومصلحة الجميع ولمّ شمل الفرقاء والتقريب بينهم والمساواة والعدل في المواقف، كان دائماً ما يؤكد على ما للكلمة الطيبة الصادقة من دور وأهمية ووقع إيجابي في النفوس لتعزيز الاحترام والمحبة والوئام بين الأشقاء في الوطن الواحد، وهو مما تميز به المجتمع البحريني عبر تاريخه الطويل، ولو دققنا في قراءة الرسائل التي يوجهها سموه خلال تلك الزيارات والتي لا أظنني مخطئأً إن قلت بأن سموه يبعثها بدقة وقصد رغم عفوية السياق التي تطرح فيه وهي عادته في الحديث وتبادل وجهات النظر مع أي من الجموع التي يلتقي بهم، لذلك سنجد رسائل طمأنة واضحة لمختلف الأطراف تؤكد أن لا أحد مستثنياً مما يدور في الوطن ولن يكون هناك عزلة لطرف واستئثار لآخر ولا رابح وخاسر، كما يحاول البعض أن يروج، وللتدليل على ذلك يمكن المرور السريع على بعض ما ورد وقيل في تلك اللقاءات، ومنها التالي (إن القرارات الفوقية ليس لها صدى أو استمرارية في حين أن القرارات التي تتم بناء على مبدأ التشاور تكون قرارات راسخة وفاعلة)، (إن تعزيز التواصل والتحاور ما بين جميع الأطراف هو الطريق الأمثل للاستمرار في نهج التوافق الذي يعد صمام أمان للمجتمع، ولا بد من الابتعاد عن أسباب الانقطاع والانعزال واختيار درب الانفراد الذي لا يساهم بإيجابية في المسيرة الوطنية)، (لا قرار دون مشاورة وما نحتاجه اليوم هو إعادة بناء اللحمة الوطنية فشعب البحرين يستحق الأفضل)، (لابد من نبذ كل أسباب العنف والتفرقة والتصعيد التي لا تخدم أحداً والاستعانة بدلاً عن ذلك بالسعي إلى التأسيس للتقارب والتشاور كوسيلة تدعم الأمن والاستقرار)، (إن الصبر والحكمة في التعامل مع التحديات هو ما يمكننا من الخروج منها أقوياء).
رسائل عديدة بعثت من مجالس مختلفة لكنها جميعاً تصب لجهة هدف واحد وتعبر عن رؤية واضحة لصاحبها بأن مستقبل هذا الوطن ومصيره وتطوره ونماءه مرهون بتعزيز وحدة الصف الداخلي والنأي بالوطن عن المآرب والمطامع الفئوية الضيقة والارتهان بالخارج وتقديم مصالح الطائفة والجماعة على مصلحة الوطن الجامع لكل أبنائه، وهي رسائل ليتها تصل لمختلف الأطراف وأولها المصرون على الاستمرار في التأزيم من جماعات ما يعرف بالمعارضة وأعوانها، وللمتعصبين كذلك من كل الجهات الذين يذكون نار الفتنه بعلم أو دون علم، لا أستثني منهم أحداً.
^ شريط إخباري..
أختم بما أرى أنه أهم ما جاء في خطابات سمو ولي العهد الرمضانية (من المؤسف أن نرى الفرص الضائعة التي مرت لتحقيق نتائج أكثر فاعلية لوطننا مملكة البحرين، ففي النهاية لن يصح إلا الصحيح، وإن المهم الآن هو إيجاد الوسائل الأنجع لتجاوز إفرازات المرحلة الماضية وآثارها كافة) ولعمري كم من الفرص ضاعت على هذا الوطن وأبنائه على مدى عام ونصف كان من شأنها أن تساهم في بداية عودة المياه إلى مجاريها، وهو طريق طويل شاق يتطلب الكثير من التسامي والتسامح والاعتراف بالخطأ والعودة إلى الحكمة والطبيعة البحرينية الأصيلة الطيبة، وهو كذلك الطريق الوحيد الذي لا بديل عنه.