نشأت حركة عدم الانحياز في منتصف القرن العشرين منذ مؤتمر باندونج الذي وضع اللبنة الأولى لها عام 1955، ولكنها ولدت رسمياً في عـــــــــام 1961 في قمـــة بلغراد، بعد أنْ تمَّ وضع مبادئها الرئيسة، ومعايير الانضمام إليها في مؤتمر تحضيري عقد في يونيـو 1961 بالقاهـــــــرة قبل القمة. وكان للحركة أهداف ثلاثة رئيسة، أولها العمل من أجل تخفيف حدة التوتر والاستقطاب في السياسة الدولية بين الكتلتين المتنافستين والمتصارعتين إبان الحرب الباردة، وثانيها تأكيد استقلالية دول الحركة عن الصراع الدولي، بأن خطَّت لنفسها طريقاً مختلفاً، والهدف الثالث تحقيق نمو اقتصادي واجتماعي وبناء نموذج للدول، التي خرجت من ربقة الاستعمار التقليدي الغربي أو الاستعمار الحديث السوفيتي “يوغوسلافيا تيتو آنذاك”.
ولكن المتغيرات الدولية لم تتوقف فالسياسة العالمية في حركة دائبة، فسرعان ما حدث الانفراج الدولي وبخاصة بعد أزمة الصواريخ الكوبية عام 1962، وسرعان ما سقطت بعض دول عدم الانحياز في مثاليتها، فحدثت الحرب الصينية الهندية عام 1962، وواجهت الهند تحدياً خطيراً لأمنها، فغيَّرت سياستها بدرجة كبيرة، وسقطت مصر في امتحان قاس في حرب عام 1967، وظلت رئاستها للحركة لمدة 6 سنوات من 1964 وحتى 1970، تكاد تكون محدودة الفعالية، لانشغال مصر بمواجهة العدوان وآثاره، ثم بوفاة جمال عبدالناصر أحد الفرسان الخمسة للحركة، وقبله نهرو الفارس الأول لها، وبعده سقط نكروما في انقلاب عسكري بعد إصداره كتابه المشهور “الاستعمار الجديد أعلى مراحل الرأسمالية”، وبعده سقط سوكارنو في إندونيسيا في انقلاب آخر بعد حركته المتهورة بالانسحاب من الأمم المتحدة.
وهكذا شهد عقد السبعينيات من القرن العشرين بدء تراجع دور الحركة في قضايا رئيسة، ومرجع ذلك ثلاثة أسباب، الأول هو في الفشل في الحفاظ علي الاستقلال الوطني وعدم الانحياز الحقيقي، فانحازت مصر والهند عملياً وإن كان نسبياً للكتلة السوفيتية، سعياً للحصول على السلاح في مواجهة الغرب الرافض لإعطائها السلاح، والمتحالف مع أعدائهما “إسرائيل بالنسبة لمصر وباكستان بالنسبة للهند”، مع اختلاف الظروف والمقومات والمعطيات وأوضاع كل دولة، وسقطت غانا وإندونيسيا أيضاً كل لأسباب مختلفة، وغاب الفيلسوف الحالم رئيس وزراء بورما آنذاك لضعف دورها، وقلة حيلتها آنذاك، فالفلسفة جميلة، ولكنها ليست بالضرورة تصلح كسياسة، وهذا ما أدركه نهرو، ولكن الهند دولة كبيرة من حيث الموارد والسكان والمساحة، بخلاف حالة بورما. وعندما ذاب الجليد نهائياً سقطت يوغوسلافيا الموحدة سقوطاً مريعاً ومدوياً، وانقسمت إلى عدة دول وانضمت بعد ذلك للاتحاد الأوروبي، كان هذا هو الفشل الأول لحركة عدم الانحياز، أما الثاني وهو إخفاق دول الحركة في بناء نموذج سياسي واقتصادي واجتماعي، وقد بدد الكثير من قادتها ثروات بلادهم، ولم يظهروا أي ميل للديمقراطية أو احترام حقوق مواطنيهم أو تحقيق رفاهية شعوبهم أو الاستثمار في مواردها البشرية ومعظمهم اعتمد على المعونات من الغرب الاستعماري الذي كرست الحركة مئات الصفحات للهجوم عليه أو من الشرق الشيوعي الذي ادعت أنها لا تحبه ولا تؤمن بفكره، ولكن نتيجة الإخفاق السياسي والاقتصادي الأمني في الحفاظ على بلادهم واستقلالها والعجز عن القدرة على مواجهة المتغيرات فقد ترتب علي ذلك عدم مصداقية دول الحركة في سعيها للتقريب بين الكتلتين، لاعتمادها على هذه الكتلة أو تلك، وكانت بعض دول الحركة تخرج من القمة للتبرؤ من قراراتها، لضعف قوتها ولتقارب مصالح الكتلتين، وسقوط الرواد الأوائل واحداً تلو الآخر، فأصبحت الحركة مثل “الأيتام”، ومعظم القادة الجدد لم يكن لهم “كاريزما” ولا مصداقية فركزوا على مصالحهم الذاتية أو مصالح دولهم في إطار محدود.
من هنا نتساءل عن الشعار المطروح في قمة طهران التي انتهت أمس الأول، وهو “السلام المستدام والحكومة الدولية المشتركة” فأي سلام والصراع بين دولها على أشده! وأي حوكمة والفساد من سمات معظم دول الحركة! وأية مشاركة دولية والقوى الكبرى في العالم تبحث عن أتباع وليس عن حلفاء أو شركاء في عملهم السياسي الدولي، ومن ثم تجمد أو كاد يتجمد دورهم الفعلي في قضايا نزع السلاح التقليدي أو النووي أو الصاروخي أو في السباق من أجل الفضاء.
والاتفاقات الخاصة بنزع السلاح أو تخفيضه لم تتم في لجنة نزع السلاح في جنيف، أي لجنة الثمانية عشر التي تشترك فيها حركة “عدم الانحياز”، وإنما في مفاوضات مباشرة بين القوتين، بل إن بعض دول الحركة انسلخت منها فعلياً وليس رسمياً، وفي مقدمتها الهند، وشكلت مجموعة الـ 18 من بعض دول الحركة التي تقدمت اقتصادياً ولها توجهات ديمقراطية، ثم اتجهت تبحث لها عن موطئ قدم في تجمع الأقوياء اقتصادياً وسياسياً واجتماعياً وديمقراطياً وتكنولوجياً، وأصبحت مصالحها الحقيقية أكثر قرباً من الدول المتقدمة الغنية منها للدول الفقيرة الجائعة، والتي تعاني المرض والتخلف، وكذلك تزداد فيها الديكتاتورية والقمع بخلاف حالة الهند، وبعض الدول الثمانية عشر، وظل هذا التجمع قائماً لفترة، ثم بهت دوره أيضاً، وأصبحت الدول النامية المهمة والتي لديها تنمية مستدامة تبحث لها عن موطئ قدم في تجمع الدول الغنية، أي ما يسمى بمجموعة السبعة التي أصبحت ثمانية وبعد الأزمة المالية العالمية عام 2008 أصبحت مجموعة “العشرين” الأقوياء اقتصادياً مع الفارق بالطبع بين وزن ومصادر قوة كل منها واحتمالات وضعه في المستقبل.
والثالث يتعلق بالمنهجية، ونتساءل.. هل واكبت الحركة كل هذه التغيرات العالمية؟ والإجابة هي نعم ولا في نفس الوقت، فهي شعرت بحدوث التغيرات وسعت لمواجهتها، ولكنها عجزت عن مواكبتها وأصبحت أسيرة الفكر التقليدي. كما إن إدراك التغير لم يحدث أثره الفعال، ولكن أحدث أثراً شكلياً في مظاهر ثلاثة، أولها التلاحم الشكلي باستمرار انعقاد الاجتماعات الدورية مع اجتماعات أكثر أهمية وإن كانت أدنى في المستوى -إلى حد معقول- في الأمم المتحدة للتنسيق في القضايا التي تطرح على المنظمة الدولية أو للحصول على بعض المكاسب لدولة من الدول الأعضاء مثل وظائف في الأمم المتحدة أو تجنب خطر أو إساءة ماسة ببعضها. وثانيها دعت بعض دول الحركة لترشيد أعمال الحركة واجتماعاتها ووثائقها ومواكبتها للمتغيرات الدولية، وبالفعل عقدت عدة اجتماعات لذلك عبر السنوات العشرين الماضية، ووضعت الكثير من الأفكار والمقترحات ولكن يكاد يكون التنفيذ لا وجود له.
^ متخصص في الدراسات الدولية والاستراتيجية