الذي يوفي بوعوده التي وعد وبنذوره التي نذر، حتى لو كانت عبر النيّة، هو في تصوري من أقوى الناس، هو الشجاع الذي تصغر أمامه كل شجاعات الآخرين، هو التقي النقي الذي عبر تجربته الحياتية والروحية يستطيع أن يضيء طريق الملايين من البشر، هو الإنسان والذي ما كان له أن يصل إلى ما وصل إليه إلا خلال ممارسته لما فكر فيه وتركه إلى أن يتجلى في حياته وفي حياة الآخرين. الإنسان الوفي هو العملة التي يحتاجها كل واحد منا، في جميع قارات الأرض، فالوفاء يعبر بصورة مطلقة عن معنى أن يكون الإنسان خليفة الله على هذه الأرض. ولأنني واحد ممن يؤثر فيهم الإخلاص كثيراً، ولا أخجل أن أقول إن دموعي تنهمر حينما أرى موقفاً إنسانياً لأحد الأوفياء، ولا أملك سوى أن أتركها لتعبر عن نفسها.. ومن أحد المواقف التي تجلى فيها الوفاء قصة عن أثر الوفاء وتفاعل الأوفياء، وهي قصة مؤثرة حدثت بين يدي أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، فقد جاء ثلاثة أشخاص ممسكين بشاب.. وقالوا: يا أمير المؤمنين نريد منك أن تقتص لنا من هذا الرجل فقد قتل والدنا، قال عمر بن الخطاب: لماذا قتلته؟ قال الرجل: إني راعي أبل وأعز جمالي أكل شجراً من أرض أبيهم، فضربه أبوهم بحجر فمات، فأمسكت نفس الحجر وضربته به فمات، قال عمر بن الخطاب: إذاً سأقيم عليك الحد. قال الرجل: أمهلني ثلاثة أيام، فقد مات أبي وترك لي كنزاً أنا وأخي الصغير، فإذا قتلتني ضاع الكنز وضاع أخي من بعدي. فقال عمر بن الخطاب: ومن يضمنك؟ فنظر الرجل في وجوه الناس فقال: هذا الرجل. فقال عمر بن الخطاب: يا أبا ذر هل تضمن هذا الرجل؟ فقال أبو ذر: نعم يا أمير المؤمنين. فقال عمر بن الخطاب: إنك لا تعرفه وإن هرب أقمت عليك الحد. فقال أبو ذر: أنا أضمنه يا أمير المؤمنين. ورحل الرجل ومر اليوم الأول والثاني والثالث، وكل الناس كانت قلقة على أبي ذر حتى لا يقام عليه الحد، وقبل صلاة المغرب بقليل جاء الرجل وهو يلهث وقد اشتد عليه التعب والإرهاق ووقف بين يدي أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، قال الرجل: لقد سلمت الكنز وأخي لأخواله وأنا تحت يدك لتقيم عليّ الحد. فاستغرب عمر بن الخطاب وقال: ما الذي أرجعك، كان ممكن أن تهرب؟ فقال الرجل: خشيت أن يقال لقد ذهب الوفاء بالعهد من الناس. فسأل عمر بن الخطاب أبا ذر لماذا ضمنته؟ فقال أبو ذر: خشيت أن يقال لقد ذهب الخير من الناس. فتأثر أولاد القتيل فقالوا: لقد عفونا عنه. فقال عمر بن الخطاب: لماذا؟ فقالوا نخشى أن يقال لقد ذهب العفو من الناس. إن مثل هذه المواقف التي حدثت في تاريخنا العربي الإسلامي، جديرة بأن نتوقف أمامها ونستخلص منها العبرة والموعظة، لتساعدنا في فهم طبيعة الفطرة الإنسانية. إن الواقع الذي نعيش ما هو إلا انعكاس لداخلنا المزحوم بالأقمار والنجوم والمجرات وما لا ينتهي من ثروات غير محدودة. هل نتعلم من إضاءات شيء من الماضي ما يعلمنا على إضاءة كل الحاضر؟ هل نقوم بفعل الوفاء حتى نستطيع زراعته في أرض المستقبل؟ هذا ما أحلم به وأراه أمامي في قادم الأيام.