حينما تضبط لصاً يسرق منزلك، ماذا يفترض بك أن تفعل؟!
خذوا دقيقة للتفكير قبل الإجابة؛ خاصة أننا نبحث هنا عن إجابة منطقية واقعية في موقف “لحظي”، وليست إجابة تدعي “المثالية”.
لا أحد سيقول للص: “تفضل اسرق ما تريد، وأنا من جانبي أسامحك مسبقاً!”.
لا أحد سيُضيّف اللص ويأتي له بـ«استكانة” شاي و«قدوع”، ويبرر ذلك بأن إكرام الضيف واجب، حتى لو كان ضيفاً قفز من النافذة! بل لا أحد سيقبل بأن يسامح اللص لو قبضت عليه الشرطة بعد أن سرق من المنزل ما سرق، وبعد أن اعتدى على سكانه، وبعد أن كسر وخرّب فيه.
لكن أن يظهر شخص ليقول للص بعد كل ما فعله: “سامحتك، وعفا الله عمّا سلف”، فهو إما يفترض بأن يكون في خانة الأنبياء والأولياء الصالحين (أستغفر الله)، أو أن يكون شخصاً يعاني من “بطء في الفهم والاستيعاب”.
لنفترض أن الشخص سامح اللص وتغاضى عن سرقته وتخريبه وتكسيره لمنزله وممتلكاته، وبعد فترة عاود اللص سرقة نفس الشخص، مرتكباً نفس الجريمة عبر استخدام نفس الأسلوب، وصادف بأن الشخص قبض عليه “متلبساً” مرة أخرى. هنا ماذا يفترض بالشخص أن يفعل؟! ماذا لو كنتم محله، ماذا يفترض أن يكون عليه تصرفكم؟!
باعتبار أن المؤمن لا يُلدغ من نفس الجحر مرتين، وباعتبار أن الإنسان السوي هو من يتعلم من أخطائه، ورغم أن الإنسان حتى السوي العاقل قد يصل لمستوى يسامح ويتغاضى ويعفو فيه عن المسيئين له والمتعدين على حقوقه، إلا أن تكرار الخطأ وبنفس الأسلوب ومن نفس الشخص، يفرض أن يكون هناك تعامل مختلف وتصرف مغاير.
الوضع الطبيعي يفرض بأن يتم تسليم اللص للشرطة، أو الاتصال بهم للقبض عليه وإخضاعه لحكم القانون. لكن لو عاد الشخص مرة أخرى ليصفح ويعفو ويترك اللص يذهب “للمرة الثانية” بغنيمته، ماذا تتوقعون أن يحصل بعدها؟!
نعم، سرقة ثالثة ورابعة وعاشرة، فالعقاب غائب، والشخص “المسروق” مازال يسامح ويعفو ويغفر، رغم أنه يملك كل الحق في محاسبة اللص بالقانون، ورغم أنه يرى بأم عينيه السرقة وعملية الاقتحام.
هذا النموذج البسيط يطبق بكل سهولة على ممارسات تتم في المجتمع، ممارسات تتم “في وضح النهار” وكثير منها “مع سبق الإصرار والترصد”، أخطاء تتكرر، أموال تتطاير، وأخطاء إدارية كل واحد منها يصرخ ويقول “الزود عندي”، ومن يقوم بها يتمادى ويتمادى ويسير على خطى “قارون” في تأمين نفسه ومستقبل أبنائه وأحفاده وأبناء عمومته وحتى السائق والخادمة، فقط لأن “الحبل على الغارب”، ولأن السرقة الأولى “فاتت”، ولأن التجاوزات الصغيرة –والتي حتى لو وثقتها تقارير ديوان الرقابة المالية عليه- “عدت” بلا محاسبة أو مساءلة أو مطالبة بإرجاع المال المسروق من خزانة الدولة.
سألوا فرعون “لماذا تفرعنت”؟ فقال “ما لقيت إللي يلمني”! وفي مجتمعنا هناك فساد مسبباته معروفة، وأبطاله واضحون وضوح الشمس، بل أتذكر مسؤولاً عفواً “هاموراً كبيراً” كان يتجاوز “عيني عينك” دونما اكتراث، فقط لأننا لا نأخذ المحاسبة على محمل الجد، ولا نصل لمرحلة يُجازى فيها المخطئ بجزائه المستحق المنصوص عليه في القانون.
سأخصص مكافأة لمن يكلف نفسه عناء مراجعة تقارير الرقابة المالية السبعة أو الثمانية (والله ضاعت الحسبة) ويخبرنا بمجموع المبالغ (بالملايين) التي أهدرت فيها، وبعدها لنا الحق بأن نتساءل بشأن هذه الملايين، إذ أيعقل أنها ذهبت دون أن يُحاسب أحد؟! دون أن يُقال أحد؟! دون أن تُطرح الثقة بأحد؟! والمؤلم، دون أن يتم إرجاع “المال العام المهدور” إلى مكانه؟!
كل هذا يحصل لأننا لا نحاسب بجدية، نغمض العين عن السارق لأنه “يمون” على فلان وعلان، أولأنه من هذه العائلة أو تلك، أولأنه موضوع في مكانه بـ«الواسطة” و«المحسوبية”، أولأننا نمنحه الفرصة تلو الأخرى (معليش حاول مرة أخرى) ليستهتر مجدداً. أموال البلد يا جماعة والله حرام. لسنا نبالغ، لكننا لسنا نقبل بأن يتم استغفالنا واستغفال الناس، إذ كم شخصاً تمت محاسبته وبيان ذلك ليكون عبرة لمن لا يعتبر؟!
من لا يريد أن تتم سرقته مجدداً عليه أن يقبض على السارق ويسلمه للشرطة، أو يبلغ الشرطة لتقوم بواجبها بحسب القانون طالما هناك قانون يفترض أن يطبق، أما من سيظل يسامح السراق ويعفو عنهم ويمنحهم الفرصة تلو الأخرى فالأفضل له ترك المنزل “بلا باب”، ولماذا الباب أصلاً إن كان السارق سيسرق بعد أن يحتسي الشاي في الصالة؟!
لا تقولوا لي الغرب يفعل كذا وكذا بالحرامية واللصوص وسراق المال العام، إذ كل ذلك لا يهم، لدينا هنا معيار “الأمانة” مختل مثلما معيار الولاء والوطنية مختل، عندنا هنا “الحرامي” غير!
اتجاه معاكس:
لم يخطئ الأمير الشاعر عبدالرحمن بن مساعد في قصيدته الشهيرة، حينما بيّن بأن معايير الزمن انقلبت، فصار الاحترام بدلاً من أن يوجه للثقاة من الشخوص صار يوجه في مجتمعاتنا لـلصوص، فقط نسترجع بعض الكلمات دون تعويل على تأثيرها:
احترامي للحرامي
صاحب المجد العصامي
صبر مع حنكة وحيطة
وابتدا بسرقة بسيطة
بعدها سرقة بسيطة
وبعدها تعدى محيطه
وصار في الصف الأمامي
يسرق بهمة دؤوبة
يكدح ويملي جيوبه
يعرق ويرجى المثوبة
«ما يخاف العقوبة»
صار في الصف الأمامي
احترامي للحرامي