قضية الخلاف بين وزارة شؤون البلديات والتخطيط العمراني وإدارة الأوقاف الجعفرية حول إعادة بناء المساجد التي هدمت إبان أحداث فبراير ومارس من عام 2011؛ هي في ظاهرها إشكالية تتعلق بإجراءات فنية وإدارية وقانونية، حيث ترى وزارة شؤون البلديات أن ما تقوم به إدارة الأوقاف الجعفرية حالياً من خطوات تنفيذية بإعادة بناء دور العبادة دون موافقة من الجهات المختصة في وزارة البلديات يُعد مخالفة وتجاوزاً على القانون، حيث إنها لا تمتلك وثائق ملكية للأراضي التي تقيم عليها دور العبادة، كما إنها تقيم مثل هذه الدور في أماكن غير مخصصة للخدمات الدينية مثل الطرق العامة وفي المناطق غير المخططة، أو في بعض العقارات التي تعود ملكيتها لأفراد أو للدولة. وبناء على ذلك ترى وزارة شؤون البلديات أن من مسؤولياتها إزالة هذه المخالفات بحكم القانون.
في المقابل ترى الأوقاف الجعفرية أن تلك الدور موجودة، وقد هدمت أثناء فترة السلامة الوطنية، وأن “تقرير بسيوني” قد أوصى بإعادة بنائها بغض النظر عن كل المسوقات التي تقدمها وزارة شؤون البلديات والتي تقتضي وقف عمليات البناء، لذلك فهي عازمة على المضي قدماً في البناء.
أمام هذا المشهد يبرز لنا الوجه الآخر للإشكالية، وهي الوجه الخفي والحقيقي لهذه المشكلة، وهي أعمق مما هو ظاهر على السطح بكثير، ولها أبعاد تختلف تماماً عما يتداول في العلن، إذ إن المسألة تعبر عن إشكالية مجتمعية تتمثل في الصراع الجماعي في البحرين، والذي يمتد في جذوره إلى العشرينات من القرن الماضي. وقد قدم الباحث الدكتور نادر كاظم تفسيراً لهذه الظاهرة في كتابه الموسوم “طبائع الاستملاك” الصادر عن وزارة الإعلام عام 2007م، حيث أشار في هذا الكتاب الذي استعار الكلمة الأولى من عنوانه من كتاب “طبائع الاستبداد” لعبدالرحمن الكواكبي، والذي يتماهى معه في تفسير ظاهرة اجتماعية - سياسية، الأولى تتعلق بالاستئثار بالسلطة، والثانية تختص باستملاك المنافع العامة. إلا أن “ضراوة هذا النوع من الصراعات لا يمكن فهمها إلا بافتراض أن هؤلاء الفاعلين يتنافسون على منافع وقيم وخيرات شديدة الندرة إلى درجة أن امتلاك جماعة لها يعني حرمان الأخرى منها، فيتعين على كل جماعة أن تدخل في صراع مرير مع الجماعات الأخرى من أجل الحصول على المنافع والخيرات، واستملاكها بصورة حصرية؛ لأن الزهد في استملاكها لن يمنع الآخرين من المبادرة إلى استملاكها وحرمان الآخرين من التمتع بها” ويضيف “إن مجال المنافع والخيرات العامة مجال عام ومشترك وموكول أمر حمايته وحسن توزيعه إلى هيئة جماعية تنازل لها الجميع، وأطلق عليها اسم الدولة.
في ضوء ما ذهب إليه د.كاظم يمكن القول إن ما قامت به إدارة الأوقاف الجعفرية هو فصل جديد من فصول سعي هذه الإدارة، التي تمثل إحدى الجماعات، نحو الاستملاك لما هو عام ومشترك بين الجميع، و«استملاك ما لا يمكن استملاكه أو غير قابل للاستملاك”. مثال؛ بناء مسجد في الطريق العام (مسجد دوار سلماباد)، ولو بحثنا في الدوافع التي جعلت هذه الإدارة تقوم بهذا السلوك، سنجد أن الدافع الرئيس وراء هذه التصرفات هو قطع الطريق على الجماعات المنافسة، والمزاحمة لها في المجتمع في الاستحواذ على المنافع العامة، وأن تحركها هذا يأتي في إطار الدفاع عن الطائفة التي تمثلها وإثبات وجودها وحمايتها من الجماعات المنافسة لها، حسب تعبير كاظم، ونتيجة لذلك نراها تصر على مواصلة عملية البناء رغم مخالفتها للقانون، وهي تفعل ذلك في تحد صارخ للقوانين التي تنظم عملية البناء وإنكار لدور الدولة في الإشراف على الممتلكات العامة.
إذاً القضية ليست مشكلة أراض مختلفاً على ملكيتها بقدر ما هي قضية إثبات وجود من قبل طرف يحاول من خلال هذه المسألة “الاستملاك الرمزي” للميدان العام والمجال المشترك، وينتهز الظروف السياسية التي تمر بها البلاد لفرض إرادته ولو بوضع اليد وبالقوة. أسئلة مهمة وحيوية تطرح في هذا السياق حول هذه المسألة، وهي أسئلة مشروعة تتطلب إجابات واضحة وصريحة، وهي؛ لماذا سكتت الدولة كل هذه الفترة عن هذه المخالفات ولم تتحرك في حينها لوضع حد لها؛ وتركت الحبل على الغارب حتى أصبحت المخالفات واقعاً يصعب إزالته؟
أعتقد أنه بعد كل هذه الأحداث الجسام التي مرت بنا، لا مجال للدولة للتعامل مع الأمور بنفس السياسات التقليدية التي يتعمد فيها بعض المسؤولين، لحاجة في نفس يعقوب، غض البصر عن بعض المخالفات، ويذهبون في هذا الاتجاه إلى غض الطرف عن تطبيق القانون على المخالفين؛ لأن الاستمرار في تطبيق هذه السياسة ستكون نتائجها وخيمة على الجميع في المرات المقبلة