كل ما نقوم من أفعال وما نطرحه من أفكار وما نكتبه من خواطر لن يكون لها ما نريد لها أن تكون إن لم تخرج منا كما يخرج الحي من الميت، أو كما تخرج البذرة إلى فضاء الكون معطية شكلها للرائي عبر الفلتر الكوني المعروف بالفطرة الإنسانية، فطرة تعرفها كل الكائنات الحية وتمارسها وتقوم بدورها الكامل إلى أن ينتهي هذا الدور، وبالتالي تنتهي رحلتها الحياتية وتعود إلى المكان الأول الذي جاءت منه.
من هنا أرى الطواحين التي تدور حولنا أراها تطحن نفسها يومياً وعلى مدار الساعة، البعض يظن بأن الكذب على المشتري، القارئ، المشاهد، المواطن، الباحث عن الأمان ولقمة الخبز والسقف، إن هذا الكذب سوف يساعده على بيع بضاعته، وبالتالي يحاول أن يكون شاطراً وماهراً في تسويق الأكاذيب.
في الأسبوع الماضي قرأت على صفحة الفيس بوك قصة من القصص الصينية، نقلها للقراء السيد محمد البلادي، تقول القصة..
جلس بائع برتقال على قارعة الطريق يبيع ثماره، فمرت بقربه عجوز وسألته إن كانت هذه الثمار المعروضة للبيع حامضة؟ ظن البائع أن العجوز لا تأكل البرتقال الحامض، فرد عليها مسرعاً: لا هذا برتقال حلو، كم يلزمك يا سيدتي؟ ردت العجوز قائلة: ولا حبة واحدة؟ أنا أرغب في شراء البرتقال الحامض، فزوجة ابني حامل وهي تشتهي طعاماً حامضاً.
خسر البائع هذه الصفقة، لكنه نوى أن يحسن الكذب في المرة القادمة! بعد يومين اقتربت منه امرأة حامل، وسألته: هل هذا البرتقال حامض يا سيدي؟ وبما أن المرأة حامل فقد تذكر درس العجوز، فكانت الإجابة بنعم؛ لأنه يريد بيعها.. ثم سأل سؤاله الشهير: كم تريدين؟ فأجابته: لا أريد شيئاً، فقد أرسلتني أم زوجي لأشتري لها برتقالاً حلواً أنت أخبرتها عنه قبل يومين، لكن لا بأس.
أيقن البائع أن هذه هي زوجة ابن تلك العجوز، لكنه أيقن كذلك أن كذبه وخداعه مرده في النهاية ضده مهما كسب من النصب والاحتيال.
لهذا أرى أنه من الممكن لأي منا أن يسوّق كلامه وتجارته وأفعاله وآرائه وسلوكه لبعض الوقت، ولكن ليس كل الوقت، فمصير الكذبة أن تنفضح وتفضح من قام بها، وتعود عليه بعدة صفعات على الوجه والقلب والروح، ومصير الكذاب أن ينتهي كما نرى ونسمع ونشاهد، فضائح كبار التجار وصغارهم، وفضائح السياسيين وفضائح الكتاب من شتى بقاع الأرض.
من يخون فطرته السليمة وطبيعته الإنسانية الصحيحة، لا بد أن يسقط في الحفرة التي حفرها للآخرين من أمثاله، ويكون عبرة لغيره، ولو قبل ساعة من مغادرته العالم، وهناك من الذين ينفضحون بعد موتهم مباشرة.
إن تعاملت مع ثقة الآخرين باستهتار محاولاً أن تعزز الثقة داخلك، الآخرون سيفقدون الثقة بك مهما كانت قيمة الأفكار التي تطرحها ونبل مضامينها، في الأخير لن تستطيع أن تبيع أكاذيبك حتى إلى الذين صدقوك إلا لبعض الوقت، وعادة ما يكون حبل الكذب قصيراً جداً.