كان أبناء جيلي -أيام الثوابت العربية- منشغلين بالأيديولوجي بالدرجة الأولى، كنا نقرأ لغالي شكري ولمحمود أمين العالم والطيب تزيني ومحمد عمارة وسمير أمين وزكي نجيب محمود، وعبد الله العروى وحسين مروه وغيرهم: خليط من الكتابات التي تتراوح بين الفلسفة والسياسة والأدب، وكان أفق الوعي والتحليل مسكوناً بالهواجس والقضايا الوطنية والقومية وعلى رأسها أزمة المجتمع العربي وسبل النهضة والمضمون القومي للثقافة، وكانت نقطة الانطلاق هي نهضة الحضارة العربية بتجديد أبعادها.
وإذا كانت المرحلة القومية في أوروبا قد اتسمت بنضال الشعوب الأوروبية لإقامة كيانها الوطني الخاص قد حررها من التأثير الضاغط للقوى الكبرى، فقد صاحب هذه الحركة صعود الثورات البورجوازية والديمقراطية الكبرى ضد الإقطاع والتخلف (بين القرنين 16 و19ميلادي) بما مهد للديمقراطية الأوروبية، فإن التطور الذي كان جارياً في البلدان العربية -مع تفاوت بينها- كان متسماً باتجاه أكثر جذرية، ذلك أن النضال ضد الهيمنة الغربية وضد العدوان الصهيوني قد زاد حركات التحرر توجهاً نحو الجذرية السياسية بطابعها اليساري أو بطابعها الإسلامي والقومي، وكان يبدو أن العملية التي يراد القيام بها لم تكن سوى الإجابة عن سؤال رئيسي وهو؛ كيف نتصرف كي نستمر في المحافظة على شخصيتنا في عالم يسيطر عليه الآخر؟
وكنا في تلك المرحلة في أواخر السبعينات من القرن الماضي،نحاول استيعاب أطروحات عبدالله العروي حول العرب والفكر التاريخي وأطروحات الجابري حول نقد العقل العربي وتجديد المضمون القومي للثقافة، ندرك بالتدريج -بعد تبين عقم النزعات الأيديولوجية- أن ما كان يسمى بالنهضة العربية قد تعثر، وبأننا نعيش أزمة جديدة مركبة وأكثر تعقيدا من تلك التي واجهها الطهطاوي ومحمد عبده وجمال الدين الأفغاني وطه حسين وغيرهم.. وبدأ يظهر الوعي بالحاجة إلى نقد العقل العربي وتعميق الاتجاهات المعـرفيـة والانشغال باستـيعـاب المكتسبات المعـرفيـة الجديدة تفعيلها والحجة الماسة إلى تصحيح وعينا ومراجعة مسلماتنا المريحة.
وهكذا، بدأنا نطرح أسئلة أخرى تتعلق بتعريف الثقافة والوعي ودور المثقف، مثل هل الثقافة هي التعبير الواعي عن واقع المجتمع، بحيث تكون الأسبقية لعنصر الوعي وتفضيل المعقول على اللامعقول والمكتوب على المروي؟ وكانت الإجابات تفضي بنا إلى تناقضات تنفي الثقافة كمضمون وكهدف أو تنفى القومية كميزة ثابتة ذات قيمة.. وكانت الاجتهادات توصلنا إلى أنه من العبث إعطاء طبيعة قومية لنماذج الماضي، لأن الثقافة في الماضي كانت عالمية بمعنى من المعاني.. وإذاً فالبحث عن ثقافة قومية في الماضي مضيعة للوقت، واللغة وحدها لا يمكنها أن تكون تشكل عنصر التمييز القومي، وبالتالي لا يمكن أن تشكل مضمون الثقافة القومية.. وأصبحنا أقرب إلى القبول بفكرة الانطلاق من الثقافة الإنسانية الحديثة، وتوصلنا إلى أن الخصوصية ليست هي التمسك بالماضي وتعبيراته ولغته ومنطقه ولا هي الرفض الساذج للآخر وللثقافة المعاصرة. في ذلك الوقت بدأنا نتعرف على كتابات محمد أركون ونجد متعة في قراءتها ونجد أنه يسبح في بحر آخر غير ذلك الذي درجنا على السباحة فيه فقد لفت منذ البداية إلى أسئلة لم تكن معهودة (لماذا تغلب الخطاب الإسلامي التقليدي على سائر أنواع الخطاب العربي الاجتماعي والسياسي والثقافي؟).
لقد حاول أركون أن يفتح أذهاننا على ضرب من البحث جديد، يقتضي الشجاعة والجرأة، ويستدعي الانفتاح والمعرفة بجميع أبعاد الثقافة الإنسانية الشاملة والاستنباط الانتقادي، واتباع الإنتاج العلمي الضخم في جميع اللغات وسائر الميادين الألسنية والتاريخية والعلمية، هذا فضلاً عن ضرورة الإلمام الكافي بما أبدع القدامى من فكر ومعارف وفنون ومعارف واجتهادات، واستطاع أن يقدم خطاباً مختلفاً ذا طابع معرفي انتقادي مركزاً على التحليل التاريخي واللساني السيميائي، متحدثاً عن الفكر العرفانى المكتوب والفكر الوحشي، عن القرآن الكريم والظاهرة القرآنية، وعن التاريخ الراوي للأفكار والتاريخ المتعلق بالمنظومة الفكرية، وعن العلاقة بين اللغة والتاريخ والمجتمع والفكر. كما عالج قضايا الخطاب في الفكر العربي الإسلامي وفي التاريخ العربي الإسلامي، الخطابات الرسمية والخطابات المقموعة والمكبوتة والمنسية والمعزولة. وقد اقتضى منه ذلك كله منهجاً مختلفاً عن منهج التحليل الأيديولوجي الجاهز درجنا عليه، وهو المنهج المعتمد على هضم واستيعاب العلوم المتكاملة في المجالات اللسانية وفي العلوم الاجتماعية والتاريخية فضلاً عن التزامه الدائم بفكر حي متقد منتقد.
لقد نجح أركون بمنهجه أن يقدم خطاباً مختلفاً بعيداً عن المصطلح الأيديولوجي، يكشف ما في الأيديولوجي من انحياز وتزييف للحقيقة التاريخية، ولذلك تجاوز تلك التصنيفات المعهودة والسهلة للملل والنحل العربية والإسلامية القديمة والجديدة مرتفعاً إلى مستويات أعلى في النظر إلى تلك القضايا نظرة موضوعية. لقد تعلمنا منه أن الدرس التاريخي يظل ناقصاً إذا لم يعتمد على الدرس اللغوي وعلى علوم الاجتماع والنفس والأنتربولوجيا، والمعارف الإنسانية الجديدة، بعيداً عن المصادرات الكلامية أو الأيديولوجية.
^ همس..
«عندما يكتب المثقف انطلاقاً من اشمئزازه الشخصي سيكون نتيجة ذلك أنه لا يقرأ إلا ما يكتبه هو وزملاؤه وبذلك يظن أن الرأي الآخر في طريقه إلى الاضمحلال، وهذا الموقف يتسم بعدم النضج وعدم الموضوعية». عبدالله العروي.
{{ article.visit_count }}
وإذا كانت المرحلة القومية في أوروبا قد اتسمت بنضال الشعوب الأوروبية لإقامة كيانها الوطني الخاص قد حررها من التأثير الضاغط للقوى الكبرى، فقد صاحب هذه الحركة صعود الثورات البورجوازية والديمقراطية الكبرى ضد الإقطاع والتخلف (بين القرنين 16 و19ميلادي) بما مهد للديمقراطية الأوروبية، فإن التطور الذي كان جارياً في البلدان العربية -مع تفاوت بينها- كان متسماً باتجاه أكثر جذرية، ذلك أن النضال ضد الهيمنة الغربية وضد العدوان الصهيوني قد زاد حركات التحرر توجهاً نحو الجذرية السياسية بطابعها اليساري أو بطابعها الإسلامي والقومي، وكان يبدو أن العملية التي يراد القيام بها لم تكن سوى الإجابة عن سؤال رئيسي وهو؛ كيف نتصرف كي نستمر في المحافظة على شخصيتنا في عالم يسيطر عليه الآخر؟
وكنا في تلك المرحلة في أواخر السبعينات من القرن الماضي،نحاول استيعاب أطروحات عبدالله العروي حول العرب والفكر التاريخي وأطروحات الجابري حول نقد العقل العربي وتجديد المضمون القومي للثقافة، ندرك بالتدريج -بعد تبين عقم النزعات الأيديولوجية- أن ما كان يسمى بالنهضة العربية قد تعثر، وبأننا نعيش أزمة جديدة مركبة وأكثر تعقيدا من تلك التي واجهها الطهطاوي ومحمد عبده وجمال الدين الأفغاني وطه حسين وغيرهم.. وبدأ يظهر الوعي بالحاجة إلى نقد العقل العربي وتعميق الاتجاهات المعـرفيـة والانشغال باستـيعـاب المكتسبات المعـرفيـة الجديدة تفعيلها والحجة الماسة إلى تصحيح وعينا ومراجعة مسلماتنا المريحة.
وهكذا، بدأنا نطرح أسئلة أخرى تتعلق بتعريف الثقافة والوعي ودور المثقف، مثل هل الثقافة هي التعبير الواعي عن واقع المجتمع، بحيث تكون الأسبقية لعنصر الوعي وتفضيل المعقول على اللامعقول والمكتوب على المروي؟ وكانت الإجابات تفضي بنا إلى تناقضات تنفي الثقافة كمضمون وكهدف أو تنفى القومية كميزة ثابتة ذات قيمة.. وكانت الاجتهادات توصلنا إلى أنه من العبث إعطاء طبيعة قومية لنماذج الماضي، لأن الثقافة في الماضي كانت عالمية بمعنى من المعاني.. وإذاً فالبحث عن ثقافة قومية في الماضي مضيعة للوقت، واللغة وحدها لا يمكنها أن تكون تشكل عنصر التمييز القومي، وبالتالي لا يمكن أن تشكل مضمون الثقافة القومية.. وأصبحنا أقرب إلى القبول بفكرة الانطلاق من الثقافة الإنسانية الحديثة، وتوصلنا إلى أن الخصوصية ليست هي التمسك بالماضي وتعبيراته ولغته ومنطقه ولا هي الرفض الساذج للآخر وللثقافة المعاصرة. في ذلك الوقت بدأنا نتعرف على كتابات محمد أركون ونجد متعة في قراءتها ونجد أنه يسبح في بحر آخر غير ذلك الذي درجنا على السباحة فيه فقد لفت منذ البداية إلى أسئلة لم تكن معهودة (لماذا تغلب الخطاب الإسلامي التقليدي على سائر أنواع الخطاب العربي الاجتماعي والسياسي والثقافي؟).
لقد حاول أركون أن يفتح أذهاننا على ضرب من البحث جديد، يقتضي الشجاعة والجرأة، ويستدعي الانفتاح والمعرفة بجميع أبعاد الثقافة الإنسانية الشاملة والاستنباط الانتقادي، واتباع الإنتاج العلمي الضخم في جميع اللغات وسائر الميادين الألسنية والتاريخية والعلمية، هذا فضلاً عن ضرورة الإلمام الكافي بما أبدع القدامى من فكر ومعارف وفنون ومعارف واجتهادات، واستطاع أن يقدم خطاباً مختلفاً ذا طابع معرفي انتقادي مركزاً على التحليل التاريخي واللساني السيميائي، متحدثاً عن الفكر العرفانى المكتوب والفكر الوحشي، عن القرآن الكريم والظاهرة القرآنية، وعن التاريخ الراوي للأفكار والتاريخ المتعلق بالمنظومة الفكرية، وعن العلاقة بين اللغة والتاريخ والمجتمع والفكر. كما عالج قضايا الخطاب في الفكر العربي الإسلامي وفي التاريخ العربي الإسلامي، الخطابات الرسمية والخطابات المقموعة والمكبوتة والمنسية والمعزولة. وقد اقتضى منه ذلك كله منهجاً مختلفاً عن منهج التحليل الأيديولوجي الجاهز درجنا عليه، وهو المنهج المعتمد على هضم واستيعاب العلوم المتكاملة في المجالات اللسانية وفي العلوم الاجتماعية والتاريخية فضلاً عن التزامه الدائم بفكر حي متقد منتقد.
لقد نجح أركون بمنهجه أن يقدم خطاباً مختلفاً بعيداً عن المصطلح الأيديولوجي، يكشف ما في الأيديولوجي من انحياز وتزييف للحقيقة التاريخية، ولذلك تجاوز تلك التصنيفات المعهودة والسهلة للملل والنحل العربية والإسلامية القديمة والجديدة مرتفعاً إلى مستويات أعلى في النظر إلى تلك القضايا نظرة موضوعية. لقد تعلمنا منه أن الدرس التاريخي يظل ناقصاً إذا لم يعتمد على الدرس اللغوي وعلى علوم الاجتماع والنفس والأنتربولوجيا، والمعارف الإنسانية الجديدة، بعيداً عن المصادرات الكلامية أو الأيديولوجية.
^ همس..
«عندما يكتب المثقف انطلاقاً من اشمئزازه الشخصي سيكون نتيجة ذلك أنه لا يقرأ إلا ما يكتبه هو وزملاؤه وبذلك يظن أن الرأي الآخر في طريقه إلى الاضمحلال، وهذا الموقف يتسم بعدم النضج وعدم الموضوعية». عبدالله العروي.