فور أن كشفت وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة كوندوليزا رايس عن مصطلح “الشرق الأوسط الجديد” قبل سنوات في مطلع الحملة الأمريكية على الإرهاب التي على إثرها تم غزو العراق وأفغانستان، بدأت ظاهرة بروز معاهد الدراسات الاستراتيجية الأمريكية تتسع بشكل لافت، لا بوضعها الاعتيادي الذي اعتاد عليه الوسط السياسي الأمريكي، بأن تكون هذه المعاهد مثل “مخازن التفكير” الـ«Think Tank” بداخل الولايات المتحدة، بل أخذت توسع نطاقها الجغرافي وتستهدف الأقاليم والدول التي وضعها صناع السياسة الأمريكية لتأخذ هذه المعاهد حيزاً جغرافياً هناك وتبدأ بممارسة دور سياسي “محبوك” له علاقة برياح التغيير هذه.
تذكروا تجربة المعهد الأمريكي الديمقراطي في البحرين الـ«NDI” وما تكشفت عنه الأمور بشأن تحركاته ليتم استبعاده من البلد، وقبله حدثت تجارب مماثلة مع الإمارات وبعض الدول العربية، كلها اتضحت لها الصورة الحقيقية لسبب وجود مثل هذه المعاهد.
هي ليست عملية تعزيز للديمقراطيات الناشئة في الدول العربية ومساعدتها على النهوض، بقدر ما هي عملية “سبر” أغوار هذه المجتمعات ومعرفة ما إذا كانت الأرضية مهيأة هنا أو هناك لتنفيذ مخطط “التغيير” هذا، والذي يأتي ليكمل مخطط “برنارد لويس” القائم على تفتيت الكيانات الحالية في العالم العربي وصنع كيانات أخرى يمكن للولايات المتحدة أن تفرض عليها سيطرة مطلقة تخولها تسيّد العالم بشكل منفرد أحادي. حينما نسمع خبراً عن إقامة معهد بالأخص أمريكي لندوة ما، أو تجمع معين، أو مؤتمر ضخم، ليس من الحصافة التسليم بكل سهولة أن هذه الفعاليات ستقام لمجرد “نشر المعرفة” أو خدمة “الباحثين”، بل ما عودتنا عليه السياسة الأمريكية، بأنها لا تقوم بأي فعل أو تحرك إلا بضمان أنه يخدم المصلحة الأمريكية في المقام الأول. مثل هذه المعاهد -منذ تصريحات رايس وحتى اليوم- تكفلت بتسهيل الأمور للعديد من الكوادر للدخول في برامج معنية بعملية “التغيير من الداخل” في مجتمعاتهم، مستندة على معطيات عديدة على رأسها توجه البلدان العربية والإسلامية نحو الديمقراطية ومشاركة الفرد في صناعة القرار مع الدولة، بينما المفارقة أن مثل هذه البرامج لا تقدم بصورتها الواضحة أو الصريحة للمواطنين الأمريكيين، لا نعني أنها ليست موجودة لهم، بل ليست موجودة بنفس “النفس” الذي يبث في البرامج الموجهة للكوادر العربية بالأخص المرتكز على عمليات التغيير “مسمى لطيف للانقلاب” أو تعزيز الديمقراطية “مسمى آخر لطيف لتغليب السطوة الحزبية”. واشنطن لا تقدم شيئاً مجانياً أبداً لأحد، كل فلس يصرف تقابله دراسات في كيفية استرداد أضعاف أضعافه لكن بأسلوب آخر، وعليه فإن انتشار مثل هذه المعاهد الأمريكية يبعث على التساؤل والاستغراب، بالأخص في الدول العربية والدول النامية، إذ إلى هذه الدرجة الأمريكان هدفهم تثقيف المجتمع العربي وإيصالهم لمستوى متقدم من الديمقراطية، هذه الديمقراطية التي يمكن أن يقبل الأمريكان أشكالاً “راديكالية” منها في البلدان العربية، لكنهم لا يقبلون بها البتة في المجتمع الأمريكي!
عموماً، أحد المعاهد الأمريكية الناشطة جداً في المنطقة هو مركز “بروكنجز” ومقره في الدوحة، وهو تابع للمعهد الرئيس تحت نفس الاسم في واشنطن. هذا المعهد بدأ مزاولة نشاطه في المنطقة عام 2008، وحدد أهدافه بالقيام ببرامج وأبحاث تتضمن مشاركة شخصيات دولية بارزة سواء حكومية أو من المجتمع المدني وأكاديميين وإعلاميين وغيرهم، وكل عمله يرتكز كما يعرف المعهد نفسه عبر الموقع الإلكتروني على محاور أربعة كالتالي:
1- الديمقراطية والإصلاح السياسي.
2- العلاقات بين منطقة الشرق الأوسط والدول الآسيوية الناشئة بما في ذلك الشؤون الجيوسياسية واقتصاد الطاقة.
3- الصراع وعمليات السلام في المنطقة.
4- الإصلاح التعليمي والمؤسسي والسياسي في دول مجلس التعاون.
طيب، هو معهد يتحدث عن محاوره الرئيسة بشكل صريح، وينشر مناقشاته وندواته بشكل مفصل على موقعه الإلكتروني، فلماذا القلق هنا؟! ولماذا يمكن أن تنسحب عليه تجارب بعض الدول مع معاهد أخرى اتضح بأنها تمارس دوراً “استخباراتياً خفياً” بموازاة دور “غير نزيه” بتشكيل كتل وجماعات لإحداث “التغيير” كما يصفون، بينما في الحقيقة هو إحداث “انقلاب” صريح في هذه الدول؟!
الأمريكان يا سادة هم السبب، فقد عودونا ألا نصدق تصريحاتهم الرسمية لأنه عندما تقرن بأفعالهم ترى العكس تماماً. عودونا بأن أي منظومة تتبع لهم سواء سفارة أو معهداً أو لجنة أو وفداً لابد وأن لها دوراً آخر عن الظاهر الذي يبدو للناس، وتجربة الـ«NDI” في البحرين وما يفعله سفيرهم في المنامة خير دليل.
معهد “بروكنجز” وضع في أجندته مطلع هذا الشهر إقامة منتدى لمناقشة الوضع السياسي الراهن في مملكة البحرين. وبالرغم من أن الشخصيات الرسمية التي وجهت لها الدعوة رفضت المشاركة، إلا أنه تمت إعادة جدولة المنتدى.
ليس مرفوضاً أبداً أن تناقش الحالة البحرينية في أي مكان وأي زمان، لكن ما يهمنا كمراقبين هو البحث عن المسوغات والأسباب، خاصة في هذا التوقيت بالتحديد، إذ هذه المعاهد كما أسلفنا لا تقوم بأي خطوة دون دراسة وافية ودون تحديد أهداف يراد الوصول لها.
لن أفترض أهدافاً أو أسباباً هنا، رغم أن البعض سيراها محاولة لإثارة الشأن البحريني مرة أخرى رغم أن كثيراً من الأمور باتت واضحة تماماً، لكن سبب إصرار المعهد على إقامة الندوة وطرح الموضوع البحريني الآن رغم أن “سخونته” كانت في سابق الأشهر يدفع لمحاولة معرفة ماذا يريد هذا المعهد أن يصل إليه بالضبط، ومن يقف وراءه؟!
لو كانت المسألة وقفت على إثارة الموضوع والنقاش فيه بمنطقية وعقلانية وحيادية بحيث لا تغفل حقيقة ما حصل في البحرين بأنها محاولة انقلابية، وأن حالة البحرين لا تدخل ضمن ثورات الربيع العربي مثلما قال مساعد وزير الخارجية الأمريكي مايكل بوسنر بنفسه، فإن المسألة قد تكون “مبلوعة”، لكن أن تتكشف أمور تبعث على الريبة بشأن هذا المعهد فهو ما يجعل رفض المشاركة أمراً مسلماً به.
معهد “بروكنجز” له تفريعات أخرى، أعني معاهد أخرى تتفرع منه على رأسها معهد “صبان” الصهيوني، أسسه رجل إسرائيلي أمريكي من أصل فرنسي يدعى حاييم صبان هو صاحب المركز 102 في قائمة “فوربس” لأغنياء أمريكا، وبحسب التسريبات الصحافية فإن هذا الرجل حاول مرتين شراء أكثر من 50% من أسهم قناة الجزيرة في عامي 2004-2009. أسس معهده في عام 2002 مقدماً مبلغ 13 مليون دولار وأسماه معهد “صبان لسياسات الشرق الأوسط” وربطه بمركز بروكنجز، ووضع مارتن أنديك السفير الأمريكي إلى إسرائيل ومساعد وزير الخارجية لشؤون الشرق الأوسط خلال إدارة كلينتون رئيساً له. صبان قال في مقابلة مع “نيويورك تايمز” في عام 2004: “أنا رجل لدي قضية واحدة وقضيتي إسرائيل”.
الآن مثل هذا المعهد الأمريكي، المرتبط بفروع مشبوهة منها الفرع الإسرائيلي، يعمل في المنطقة! بالتالي هل يمكن الاقتناع وبكل ثقة أنه يحاول فقط الحديث عن قضايا التغيير السياسي ونهوض الديمقراطيات بشكل مسهب دون أن تكون لديه أهداف “خفية” أخرى؟!
لا تبرروا ما نقوله بـ«نظريات الشك والمؤامرة”، فمن خلق هذه النظريات غير الأمريكان أنفسهم؟! أليسوا هم من قالوا: “إن لم تكن معنا فأنت ضدنا”؟!. أليسوا هم من يطالبون الدول بأن تطلق سراح المجرمين وتغلق السجون وتدعي أنها نصيرة الحريات وحقوق الإنسان بينما هي التي قامت بأبشع انتهاكات حقوق الإنسان على الإطلاق في غوانتنامو وأبوغريب؟!
اليوم يدس السم في العسل في منطقتنا العربية بدعوى الحوار المتمدن والبحوث التنويرية من خلال هذه المعاهد. وهنا نتوقع أكثر، فسفاراتهم تحولت لمواقع إدارة عمليات وتجمعات للتخطيط مع دعاة الانقلاب وممارسي الإرهاب، بذريعة دعم الديمقراطية وتحولاتها في المنطقة.
بالتالي من يصدق “عميانياً” أعزاءنا الساسة الأمريكان في كل ما يقولون ويفعلون، رجاء فـلـ«يرفع يده”! لأنه يحتاج لمساعدة عاجلة!­