ما العمل لمواجهة الوضع الثقافي المتسم بالركود والتخلف في اتجاهه العام؟

سؤال تجب مواجهته على نحو صريح ودون التعلل بالأعذار أو الهروب من مواجهة هذه الحقيقة.

المطلوب فكرياً وثقافياً هو تطوير نقد ذاتي موضوعي وإيجابي لأفعالنا الفكرية والثقافية بالقدر الذي نقدم عليه في المجال السياسي على سبيل المثال. وهذا الأمر محتاج دون أدنى شك إلى تربة صحية لشحذ آلة الفكر النقدي، وتطوير منهج أكثر صرامة وعقلانية واستنفار همة أقوى تصميماً وأعظم جرأة على وضع المسلمات والصيغ الشائعة المبتذلة والدروب المطروقة موضع الشك والسؤال. فقد عشنا سنوات عديدة ونحن نلوك أفكاراً قديمة تبين أنها منتهية الصلاحية وتبين أن علينا امتلاك فكر خلاق جديد بعيداً عن النمطية والتكرار والتقليد وتقديس الماضي والوقوف عنده كأفق للمستقبل أو طرح حاضر الآخرين كبديل وحيد للانطلاق نحو المستقبل.

لكن هذا الشعور لا يحمل فقط مكاسب إيجابية؛ لكن يمكن أن ينطوي كذلك على مخاطر ومحاذير كبيرة تهدده بتحويل الإخفاق من تجاوزات في اتجاه الإفراط أو التفريط.

ومن معالم هذا الإفراط أن ينظر البعض إلى مجموع تاريخ العرب الحديث والقديم كسلسلة متواصلة من المآسي والهزائم مصدرها انحطاط الذات وانعدام القدرة ونقص الكفاءة في المجتمع العربي أو في ثقافته على مواجهة تحديات التاريخ والرد الإيجابي عليها. وهكذا يظهر الإخفاق هنا كما لو كان تجسيداً لعاهة فطرية، أو ثمرة حتمية لنقيصة ذاتية وخطيئة أصلية، وعندئذ يغلب موقف الندب والنواح على موقف العقل والمراجعة والانفتاح، وتكون النتيجة تكريساً متجدداً للسلوكية السلبية وللتوجه العدمي وتعذيب النفس وتأنيب الضمير، وكلها من المشاعر التي تقضي على إمكانية استعادة الروح العملية والطفرة التاريخية والممارسة الإيجابية والمبادرة.

وأما ما يدخل في دائرة التفريط فيتصل بالشك بأن الإخفاق لا يعبر فقط عن عدم فعالية الاستراتيجيات والوسائل التي اتبعت في الحقبة الماضية وضعفها، ولكن أيضاً عن تهافت الأهداف والمبادئ التي قامت عليها فكرة النهضة والنهوض بالأمة العربية على مختلف المستويات، فيقع التشكيك في صلاحية العمل الثقافي العربي ذاته وفى نجاعة التحول الاجتماعي وفى مصداقية المبادئ الإنسانية. فتتطور دعوة انكفاء كل قطر وكل جماعة وكل طائفة وكل قبيلة أو عائلة على نفسها، ولا تهتم إلا بخدمة مصالحها الجزئية والخصوصية.

وهكذا يصبح الحديث عن الإخفاق وسيلة لتدعيم الممارسات السلبية، والاتجاهات التقسيمية التي كانت نفسها من أسباب هذا الإخفاق ومكوناته، فبقدر ما يؤدي الموقف الأول إلى الهروب إلى الأمام، والشطب على مكاسب قرون كاملة من التجربة والخبرة التاريخية، ومحوها ودفنها، والبدء من نقطة الصفر، فيتحول موقف التجديد إلى موقف التمرد السلبي والاحتجاج والتدمير، ويؤدى الموقف الثاني إلى التراجع النظري والعملي وإلى الانكفاء نحو مواقع صرف المجتمع قروناً طويلة لتجاوزها وتبديلها والارتفاع عليها.

نحن إذاً في مواجهة هذه العدمية وسوء التدبير على مختلف الأصعدة نحتاج ولا شك إلى تعبئة طاقات روحية وجماعية لا حدود لها و هناك ما يؤكد وجودها وإمكانياتها التاريخية، إلا أنها تحتاج أيضا لتحقق أهدافها إلى تطوير إدارة الدولة الديموقراطية والعقلانية، وتعبئة النخبة المثقفة الواعية في الأجهزة الثقافية الرسمية والأهلية والفردية للنهوض بالوضع على جميع المستويات .