يبدو تعاطينا مع موضوع حقوق الإنسان -رغم التمجيد الظاهري للنصوص- انتقائياً متردداً، ففي الوقت الذي يجري تمجيد الديمقراطية -لمجرد اعتبارها آلية للانتخابات فقط- يجري التحفظ بشأن جوانب عديدة من حقوق الإنسان بدعوى الخصوصية، في الوقت الذي يجري فيه التماهي مع منطوق الإعلان العالمي لهذه الحقوق وديباجته ومواده الرئيسة، مجسداً في مواد الدساتير التي تؤكد على الحقوق الأساسية للإنسان، وعلى علوية الحرية وقدسية المساواة وتكافؤ الفرص -مع فوارق محدودة بين بلد وآخر- إلا أن التغني بنبرة عالية بالالتزام بحقوق الإنسان في حد ذاته يعد خطوة إلى الأمام في مواجهة تلك العقلية السابقة التي كانت تنظر إلى موضوع حقوق الإنسان على أنه يأتي في سياق (المؤامرة العالمية علينا) أو في سياق (التغريب) أو (العلمنة) إلى آخر تلك التوصيفات التي كانت تبرر في مجملها النزوع نحو رفض التقيد بالحقوق الإنسانية الأساسية وعلى رأسها الحقوق السياسية والمدنية والدينية والثقافية وعدم التمييز ضد المرأة، من حيث المبدأ، هذا بغض النظر عن مدى الانخراط في صميم المقاربة الأممية التي أقرّت تلك الحقوق في تكامل أبعادها الاجتماعيّة والاقتصادية والثّقافية في تلازم مع الحقوق السّياسية والمدنية، ومع الليبرالية والتي اندرجت ضمن أفق الأخلاقية العامّة لحقوق الإنسان، التي حدّدها الإعلان من خلال “الإقرار بما لجميع البشر من كرامةٍ أصليّة فيهم، ومن حقوقٍ متساوية وثابتة، في عالم يتمتّعون فيه بحرّية القول والعقيدة وبالتحرّر من الخوف والفاقة ويعيشون فيه بكرامة يتساوى فيه الرجال والنّساء” فما تحدّده هذه المقدمة إنما يقوم مقام “الأخلاقية الأساسيّة” التي تحيل عليها كلُّ بنيةٍ تشريعيةٍ متناسقةٍ، ولكل برامج وسياسات تنفيذية، فالمرجَعيّة التي تحدّد أخلاقيّة التّشريع تتسم بالضرورة بجملة من الخواص تجمع شمول الرؤية إلى أصالةِ المنهل، وحداثةِ التوجّه، وانسجامِ العناصر، ولذلك لا يمكن البتة القبول بتضخيم الخصوصيات في مجال حقوق الإنسان، ولا تضخيم الفوارق الثقافية والدينية، فالإنسان هو الإنسان في جوهره وخارج سياقه الاجتماعي والثقافي كما يقول هوبز.
فمن أرسطو إلى ابن خلدون كان الإنسان يوصف بكونه حيواناً مدنياً بطبعه، إلى أن جاء “هوبز” وقال إن الإنسان له حقوق طبيعية مجرداً من الدين والسياسة والمجتمع، كما إن حقوق الإنسان كل لا ينفصل فلا يمكن القبول بعضها ورفض بعضها الآخر.
لذلك فإنّ مفهومَ حقوق الإنسان يجب أن يكون حاصل رؤية مؤمنة بها وتروم العمل على ضمانها، وتوفر وسائل الإرادة القادرة على تجسيدها، وتعمل على تحقيق الحقوق بأبعادها الاقتصادية والاجتماعية والثّقافية والسّياسية والدينية في آن، لأنه من المستحيل الفصل بين هذه الأبعاد، ولا معنى للعودة إلى ذلك الجدل القديم حول أيهما أولى الحقوق الاقتصادية أم الحقوق السياسية؟، فقد بينت تجارب العالم خلال الستين سنة الماضية أن هذه الحقوق يجب أن تتزامن في تطبيقها وتتكامل في بنية تأثيرها، فيكون مقام الإنسان مقام الكرامة ضمن الروابط الإنسانية الحضارية بكافة أبعادها، بما في ذلك العناصر المعرفيةُ، والثقافيةُ، والتّسامح والتّضامن والتّسامي الرّوحي والرّقي الخلقي، لا يستثنى من ذلك المرأة والطفل، بل تشمَلهما ضمن تناظر حقيقي مولّد للتّوازن، ومكوّن للأمل.
وإننا كعرب ما يجب أن يقتصر دورنا إزاء حقوق الإنسان على مجرد إعلان النوايا لتنفيذ ما جاء فيه من مبادئ، بل يجب أن يتجاوز الأمر إلى ضرورة العمل على الإضافة لمبادئ الأخلاقيّة الكونيّة العامّة ما يرسخ قيم العدالة والتراحم والتّضامن والتّآزر والتّسامح بين الأفراد والفئات والأجيال، والتي نصت عليها منظومة القيم عندنا، فضمانُ حقوق الإنسان في شموليّة مبادئ تلك الحقوق وكونيتها وتكاملها وترابطها، يجب أن نجد لها ترجمة تفصيلية تنخرط ضمن بنية هذه الكونية بتفصيل الكرامة الأصليّة للإنسان تضامناً وتآزراً وتسامحاً، فندرج بذلك أنموذج قيمنا في قلب الكونية التي نقيس بها اليوم إيقاع العالم.
إنّ الدّرس الذي يمكن استخلاصه من استعراض القيم في أفق حقوق الإنسان هو أنّ الحقوق منظومة متكاملة شاملة ومترابطة. ولكنّ المرء، أمام ما يشاهده يوميّاً من التّمييز بين مبادئ حقوق الإنسان في بعض البلدان، لا يملك إلا أن يتساءل هل يمكن الاطمئنان إلى منظومة لا تتحرّج أن تقبع شريحةٌ هامّةٌ من المجتمع في أدنى مستويات الفاقة والحرمان والتهميش، مع تمييز مبرمج منهجي مؤسسي ضد المرأة تحديداً واستبعاداً لها من أبعاد حياتها الإنسانية الكاملة؟ وهل يمكن الاطمئنان إلى منظومة حقوق الإنسان حين يغيب حسّ المسؤولية عن الأجيال الجديدة وعن مصير الكوكب بفعل الاستغلال العشوائي للبيئة، وغير الرشيد وغير المتيقّظ للموارد الطّبيعية، بل حين يبلغ الأمر حدّ رفض معاهدات دولية لحماية الأرض من عواقب تلوّث فيه هلاك الإنسانيّة جمعاء؟.
وهل يمكن لمجموعة بشرية ما أن تطمئنّ إلى التزامها بحقوق الإنسان حين تزدوج معاييرُها في معاملة البشر، وحين لا تبالي بأوّل حقوق الإنسان، وأساسها الحق في الحياة والحرية والكرامة والاستقلال على أرضه.