ذات مرة كتبنا في ذات التوجه وذات الفكرة، لكن لا حياة لمن تنادي، فأغلب أهل البحرين يقعون اليوم في منطقة بين تطرفين إن شاء لنا أن نسميها.
التطرف الأول هو تطرف الإرهاب والانقلاب الطائفي والهيمنة على الدولة ومفاصلها ووزاراتها والقطاع المصرفي، أما التطرف الآخر (اسمحوا لي أن أطلق عليه تطرفاً) هو ذلك الفساد أو حالة عدم المحاسبة أو حالة تعويم الفساد، أو جعله أمراً تافهاً وقضية ليست كبيرة.
في مساحة بين التطرفين يقع أهل البحرين، نعم الأزمة الأخيرة كانت أزمة وطن، وأمة، وسيادة دولة، وأزمة انقلاب طائفي يقوده أناس بين ظهرانينا، وقد تطلب الأمر التصدي للإرهاب ولمحاولة اختطاف الدولة. فالوطن (الأرض والعروبة والانتماء، والولاء للأسرة المالكة) لا يمكن أن نجعل قضية قبله، لكن اليوم وبعد أن هدأت الأوضاع نسبياً (رغم أن الإرهاب يضرب كل يوم) أصبح لزاماً علينا أن نعبر عن رأي من يقعون في منطقة بين رفض الفساد بكل أشكاله، وبين من يكتوون بنار الإرهاب والتحريض الطائفي البغيض.
حين يتعلق الأمر بالفساد بكل أشكاله لن تجد مواطناً يقف مع هذا الفساد أو يدافع عنه، كان من كان. وعلى الدولة اليوم من بعد كل التجارب والمحن أن تعرف أنها هي المسؤولة عن قضايا الفساد، ويشترك مع الدولة المجلس التشريعي كونه مجلس مراقبة ومحاسبة وتشريع، لكننا نلوم الدولة قبل أي جهة أخرى.
من يقف مع سيادة الدولة أصبح في حيرة من أمره، أو كما يقول المثل العامي (آه من بطني.. وآه من ظهري) هنا إرهاب وطائفية ومحاولة تلو أخرى للانقلاب، وهناك فساد وبيرقراطية وعدم محاسبة.
هذا سيف مسلط علينا، وذلك سيف “مسيط “علينا، إن سكتنا عن الأول نصبح مواطنين من غير ضمير ولا انتماء ولا حس وطني، وإن سكتنا عن الثاني أيضاً تلتصق بنا ذات التهم.
كتبنا مراراً (ولا نملك غير التنبيه ونحن أصلاً على شفا حفرة، فكلمة واحدة قد تجعلك عاطلاً، بينما يتقبل كل الكلام القبيح والتلفيق وكل الضرب تحت الحزام من رؤساء تحرير بعينهم ويقال حرية رأي)..!
كتبنا مراراً أن على الدولة أخذ زمام المبادرة، على الدولة أن تغلق الأبواب المفتوحة عليها، والتي يستغلها من يريد ضرب البحرين وأهلها، هذه الأبواب هي أبواب الفساد المالي والإداري، لن تستطيع الدولة أن تأتي بطبيب جراح تجميلي يجمل قضايا الفساد، لن يستطيع حتى وإن كان الطبيب البرازيلي المشهور الذي أجرى للقذافي عمليات شد وزراعة شعر، فقضايا الفساد لدينا لن يجملها طبيب تجميل أبداً.
لا نتمنى أن ينزعج أحد مما نقول، والله إن قطع أيادي الفساد هو في مصلحة الحكم والدولة أولاً قبل الشعب، هذا باب كبير تأتي منه رياح التغييرات، فاقفلوه تماماً بتكريس دولة القانون واقعاً، قبل أن يتحول الشعب المحب إلى شعب يضج به الحال ويفعل كما يفعل الآخرون، والله إننا مع الدولة ومع سيادتها، وإن هذا الطرح في مصلحة الدولة ونظامها وحكمها.
أغلب الشركات الوطنية بها قضايا فساد وبعضها وصل إلى محاكم أمريكا، وزارات كثيرة بها فساد كبير، ولا أريد أن أكون متشائماً وأقول كل الوزارات.
تقارير ديوان الرقابة المالية (وهو تقرير سوفت أو دايت) ولا يقول كل شيء، ولا يفتش في كل الأماكن، إلا أن به قضايا فساد تجعل المواطن (يطبخ من الداخل) لكن لا شيء يحدث أبداً، ولا مسؤول تتم محاسبته، ولا مسؤول يتم تحويله إلى النيابة العامة.
إذاً لماذا ينشر التقرير، والجميع عاجز عن أن يتخذ موقفاً من الفساد والمفسدين، كعادتهم أعضاء مجلس النواب توعدوا (وأرغوا وزبدوا) بعد صدور التقرير، بينما اليوم لا يسألون إلا عن (غبقات الصافي)..!
أصلاً ما بقى صافي في البحر، بعد عامين سوف نستورده من عمان أو الإمارات، البحرين الجميلة التي كانت في خاطرنا تكاد تندثر.
أصبح تقرير ديوان الرقابة للفضيحة وحسب، لكن ماذا بعد التقرير، لا شيء يحدث، هذه المفارقة والقضية يجب أن يوضع لها حد، تقرير ديوان الرقابة يجب أن تخصص له نيابة خاصة وتبحث كل القضايا، البريء يخرج ويعلن أنه بريء، والمذنب يحول للقضاء، هذه هي دولة القانون والمؤسسات.
كأن قدرنا ونحن نقف ضد الانقلاب الطائفي أن نسكت عن الفساد لأن هناك من يريد أن يتشفى ويستغل الوضع، لكن إلى متى يسكت من يقع بين منطقة الإرهاب والانقلاب الطائفي، وبين الفساد بأشكاله ويبقى يتفرج.
تقرير ديوان الرقابة المالية لم يترك وزارة ولا شركة تملك الدولة فيها أسهماً إلا وتحدث عن الفساد فيها، والمخفي أعظم. نحن لا نتكلم عن وهم، أو أمر غير موجود، فحسنة تقرير ديوان الرقابة المالية الوحيدة هو أننا نستطيع أن نقول إن الوزارات والشركات فيها فساد دون أن يرفع علينا أحد منهم قضية يهمنا فيها بالتشهير، فقط هذه هي حسنة تقرير ديوان الرقابة.
من لا يشعر بالناس هو في برج عاجي، هناك أسر محتاجة للدعم كثيرة، ولا تملك حتى أن تذهب “للمرمطة” في وزارة التنمية، أو ربما بعض القائمين على الأسر يقول إن أجرة السيارة التي سوف أدفعها لمن يوصلني إلى الوزارة لا ينبغي أن أدفعها وأولادي الذين بحاجة إليها.
نحن لسنا مع الانقلاب، لكن أكثر شيء حرك الشعوب التي ثارت على حكامها في مصر وتونس واليمن وسوريا ولييبا هي قضايا فساد وقضايا معيشية، فلا تستهينوا بالقضايا المعيشية، فحتى من يحب البحرين وقلبه يقطر بالولاء للأسرة المالكة حين يجد أن أوضاعه المادية والمعيشية صعبة وقاسية فإنه قد يستجيب لخطاب آخر، ويقول في نفسه، عل في هذا الخطاب خلاصي.
ابحثوا عن الأسر الضعيفة، من أي دين وملة، واعملوا عليهم دراسات واستقصاء، وإن كانوا لا يملكون أرصدة خفية فساعدوهم، البحرين صغيرة وبالإمكان أن نغلق هذا الباب عن طريق الدولة وصندوق الزكاة والجمعيات الخيرية، والمؤسسة الخيرية الملكية.
نعرف أن هناك من يتاجر بحاجته، لكن أيضاً هناك الكثير من الأسر التي لا تتاجر بحاجتها، وتستحي من الله، ومن الناس فلا تمد يدها ولا تطلب، هؤلاء نريد من الدولة أن تصل إليهم وترعاهم، ولا تجعلهم يحتاجون شيئاً.
الذي لا يستفيد من الدروس والعبر التي حدثت أمامه هو أعمى البصيرة، من يقعون في المنطقة بين المنطقتين هم مع الدولة ومع سيادتها، لكنهم ليسوا مع قضايا الفساد، وليسوا مع (حالة اللي يبوق نوديه مكان ثاني.. ونسكر على الموضوع) هذه السياسة ضيعت دولاً، واليوم نحن في مرحلة لم تعد هذه الأمور مقبولة تماماً.
نقول للدولة لا تشاهدوا أعلى السطح فقط، أو ما يسمى بالطبقة المخملية، هناك من يحتاجون أن تشاهدوهم في الأسفل وفي الوسط، من هؤلاء يأتي الخوف، فمن يملك الأموال دائماً يخاف على ماله ولا يزج بنفسه في مواقع الخطورة، إما من لا يملك شيئاً فهو قنبلة موقوتة سيقول في يوم ما، علي وعلى أعدائي، هؤلاء من يجب أن تراهم الدولة وترعاهم حتى لا يتحولوا إلى المعارضة الخفية التي قد تنفجر في لحظة لا تتوقعها الدولة.
ليس كل الصامتون هم صامتون لأنهم راضين (مقولة البنت الساكتة في الخطوبة معناتها راضية) لا تنطبق على الصامتين في مجتمعنا السياسي اليوم، الذين ربما حالهم وعيونهم تنطق، فحين نقول إن القضية هي قضية فساد، فهذا يعني أن هناك مالاً عاماً مهدراً، فكلما زاد المال المهدر زادت الأسر المحتاجة. هذه العلاقة صحيحة، لذلك ما يجب أن تسمعه الدولة اليوم هو كلام ربما يوجع لكن من الواجب أن يقال، فمن يحبك قد يقسو عليك لأنه يتمنى لك الخير ولا يريد أن يراك في طريق الخطأ. مازلت أتذكر ذلك المثل الذي تقوله والدة صديق عزيز حفظها الله، كانت تقول (الله يرحم من بجاني، ولا ضحك علي الناس)..!
هذا ما نستطيع قوله وفي الفم ماء، إن سكتنا أصبحنا شركاء في الفساد، وإن تكلمنا قيل لنا “هذا مو وقته الدولة تتعرض لمحاولة اختطاف” الذي يريد أن يختطف الدولة لن يستطيع بإذن الله، فالله لا ينصر من لا يستعين به، لكن ماذا عن الفساد الذي يضيّع الأوطان، ويجعل الشعوب تثور؟