من يراقب الفكر السياسي العربي على امتداد نصف القرن الماضي، من الحياة السياسية العربية، ويتابع بشيء من الموضوعية والحيادية العلمية البعيدة عن الانفعال تطوراتها المتعرجة، يكتشف أنه في المنعطفات الحادة التي فرضتها بعض التحولات السياسية الجذرية التي عرفتها المنطقة العربية خلال الفترة ذاتها، أوتلك التي سبقتها بسنوات قليلة، يبرز سؤال يرغم المواطن، وقبله القيادات السياسية العربية على الوقوف أمام خيارين لا ثالث لهما يحددون من خلال أحدهما مواقفهم من القضية التي وصلت أمام مفترق أحد المنعطفات تلك.
على سبيل المثال في نهاية السبعينات من القرن الماضي، وفي خضم الصراعات المتمحورة حول اتفاقيات السلام مع العدو الصهيوني، التي مهد لها الرئيس المصري الراحل الأسبق محمد أنور السادات، برز السؤال ذي الخيارين: هل أنت مع عملية السلام أم ضدها؟ هكذا ودون إتاحة المجال أمام أي خيار ثالث، وانشطر العرب حينها، ومعهم الحركة السياسية العربية بأنظمتها الحاكمة، وقواها المعارضة إلى جبهتين متناحرتين، عرفت الأولى بجبهة “الاستسلام”، والأخرى بجبهة “الرفض”. حينها طغت الخلافات بين الجبهتين وتصاعدت الصراعات المحتدمة بين معسكريهما، وطغت حتى على تلك التي كانت تحكم علاقات التناقض بين أي منهما على حدة، مع العدو الصهيوني. وقدم الطرفان ضحايا على مذبح ذلك الصراع، من بينهم رموز فلسطينية وعربية بارزة، من أمثال يوسف السباعي الذي كان حينها يترأس منظمة التضامن الآفرو آسيوي ويشارك في مؤتمر حضرته تلك المنظمة في دولة مناصرة للقضية الفلسطينية هي قبرص.
السؤال برز بحدة أكثر، ومحاولة غير مبررة، وغير منطقية، بحثا، كما كان يبدو، للفرز القائم على الخيار الثنائي، عندما غزا الرئيس العراقي صدام حسين الكويت، واستمر السؤال في الملاحقة عندما غزا الأمريكان العراق، وأطاحوا بنظام صدام، ووجد المواطن العربي نفسه مطالباً بالإجابة على سؤال يخص الساحة العراقية: هل أنت مع صدام، أم عميل للأمريكان؟
اليوم، يتكرر السؤال ذاته، أمام قضايا عربية أخرى، وفي وقت باتت فيه العلاقات العربية الداخلية، أو العربية الدولية أكثر تشابكاً، فلو توقفنا عند واحدة منها مثل القضية السورية المعقدة غاية في التعقيد. سنجد أنفسنا، كما يحلو البعض، أن يضع الفكر السياسي العربي برمته، أمام خيارين مسطحين: هل أنت مع نظام بشار الأسد، ومن ثم فأنت طرف في “المخطط الإيراني الشيعي.. إلخ المتآمر على المنطقة”؟ أم أنت مع المعارضة العاملة من أجل إسقاط نظام الأسد، ومن ثم فأنت منضو تحت عباءة “ المشروع الأمريكي الاستعماري الإمبريالي.. إلخ المتآمر هو الآخر على المنطقة”؟
الأمثلة كثيرة، ومتعددة ومتنوعة أيضا، وليس هناك ما يدعو لسردها جميع، إذا أن هناك قائمة من القضايا التي وضع المواطن، قسرا أمام مثل هذين الخيارين، كما شاهدنا الحالة تتجسد لحظة الإعلان عن ترشيح “جماعة الإخوان” في مصر محمد مرسي كي يمثلهم في انتخابات الرئاسة، وخاصة في الجولة الثانية، عندما برز السؤال، هل أنت مع “تسلم الفكر السياسي الإسلامي للسلطة لمصر إذا كنت مؤيداً لـ مرسي”، أم أنك منحاز لمعسكر عودة “فلول النظام القديم بكل فساده متجسداً في شخصية أحمد شفيق”؟، في حال تصويتك لصالح هذا الأخير.
في سياق البحث عن الإجابة، يصادر من المواطن أو القوى السياسية العاملة في الساحة العربية حقهما في أي خيار ثالث، لا يندرج في نطاق واحد من الخيارين، وفي مثل هذا السلوك مخاطر فكرية وسياسية جمة، يمكن تلخيص الأهم منها في النقاط التالية:
1. إخصاء للفكر السياسي العربي وتحنيطه من خلال حصره في دائرة ضيقة يحدد محيطها الخياران المشار لهما أعلاه، اللذان يحرمان عليه الخروج من تلك الدائرة، أو”التفكير خارج الصندوق”، كما يردد في الفكر الغربي، دون الشعور بأي شكل من أشكال الدونية إزاء ذلك الفكر. حينها، تغلف الخيارات الأخرى المبتعدة عن هذين الخيارين، بمجموعة من التصنيفات السياسية التي تبث الرعب في أذهان من “تسمح”، له نفسه، حتى مجرد التفكير في تلك الأخرى، أو يسول له ذهنه البحث عنها كأحد الخيارات المطروحة، والتي عجزت أعين أولئك المصنفين، من الالتفات إليها، أوأخذها بعين الاعتبار، عند تحديد المواقف.
2. تسطيح القضايا المصيرية العربية، ومن ثم مشاهدتها في خطوط مستقيمة، ربما تكون متوازية تفتقد القدرة على رؤية، ومن ثم تلمس تلك التعرجات التي تتضمنها، والتي تعين من يشاهدها على البحث، ومن الوصول إلى خيارات أخرى، ثالثة ورابعة.. إلخ، ربما تكون أكثر جدوى، بل وحتى جذرية من أي من الخيارين المسطحين. تلك التعرجات تحمل في ثناياها، لمن يريد أن يراها بموضوعية وتجرد، الكثير من المعلومات الغنية، التي تولد تلك الخيارات الغنية التي نتحدث عنها.
3. إتاحة الفرصة أمام الانتهازيين، والمتسلقين، الذين يوفر لهما كلا الخيارين المسطحين التربة الخصبة التي يبحثون عنها للترويج لمشروعاتهم المزايدة على الواقعية، في حالة الخيار الذي يبدو جذرياً، أوالتهالك على فتات الغنائم الرخيصة للخيار الذي يصنف على أنه استسلامي. وفي سياق كل ذلك، تتراجع الدعوات المنادية بخيارات ثالثة، ربما تكون أكثر براغماتية، لكنها أفضل حظاً للتطبيق على أرض الواقع، وربما تكون هي، في جوهرها، الأقرب للتعبير عن مصالح ذلك المواطن وطموحاته، إن لم نقل أحلامه.
4. قبر الفكر الجدلي العلمي، المرتكز على رؤية الصورة في إطارها الواضح، ذي الأبعاد الثلاثة، وفي ثناياها تلك النتوؤات، التي قد تبدو ذات أهمية ثانوية في حساب موازين القوى، أو عند مراجعة مقاييس الخسارة والربح، لكنها في حقيقة الأمر، تتنامى، عندما يبدأ من يراها في تجميعها، كي تشكل في نهاية الأمر كتلة كبيرة متماسكة، لها حصتها في جسد الخيارات المتاحة، يمكن، بالتالي، أن تقود إلى الخيار الأفضل الذي يبحث عنه ذلك المواطن، والمعبر، في نهاية الأمر، عن الأغلبية التي ربما تكون صامتة، إما خوفاً من انتقام يقدم عليه أحد معسكر الخيارين، أو خشية من بلبلة تصيبهما بواحدة من رصاصاتها الطائشة.
لذا ربما آن الأوان، وبعد التضحيات التي فرضها الخياران المسطحان، أن يعاد للفكر السياسي العربي حيويته التي كان يتمتع بها في الثلاثينات من القرن الماضي، عندما كانت جميع الخيارات توضع على بساط البحث، وتتم مناقشتها في فضاء لا يعرف التصنيف، ولا يمارس الإرهاب الفكري، ولا يصادر أحد حقه في الاختلاف، والبحث عن حلول أخرى، ربما لم يعد يراها اليوم، من يتمسكون بخياريهما، ويرفضون ما هو خارج إحدى دوائرهما.
فمتى يستعيد المواطن العربي خياره الثالث الذي صودر منه، ورغماً عنه؟
{{ article.article_title }}
{{ article.formatted_date }}