شأنه شأن الكثير من الأنشطة البشرية الأخرى، مثل الصحة والأمن، حظي التعليم بقسط وافر من اهتمامات، ومن ثم أبحاث المؤسسات العاملة في قطاع التربية والتعليم، والمرتبطة بالقدر ذاته بشكل أو بآخر بتقنيات الاتصالات والمعلومات، التي تتجاوز اليوم بخلاف ما قد يتوقعه البعض منا إطارها الضيق الذي تحاول بعض المؤسسات التقليدية الواقفة ضد أي شكل من أشكال التغيير أن تأسرها فيه، مما يمنعها من أن تكون أداة إبداعية خلاقة.
فاليوم، وبعد القفزات الواسعة التي حققتها صناعة الاتصالات والمعلومات، لم تعد الاتصالات اليوم، تلك التي كنا نعهدها حتى فترة قصيرة، مجرد قناة اتصال جامدة، أو جهاز لإعادة البث، أو آلة تتلقى المواد المعرفية، قبل أن تتولى معالجتها وتخزينها، الأمر الذي يجردها من قدراتها الأساسية التي تبيح لها التحليق في فضائها الواسع الجديد اللامتناهي، كي تتحول إلى مكون أساسي من مكونات بناء النظم المعرفية، ووضع مقاييسها، ناهيك عن تدخلها (أي مؤسسات تلك الصناعة) المباشر في كميات الجرعات المفروض تناولها، عند الأخذ بمنهجيات ومكونات التعليم المتناهي الصغر، والوتائر الزمنية التي تتدفق بموجبها تلك المكونات من مصادر إرسال المعلومات، إلى مراكز تلقيها ومن ثم الطرق الأجدى لاستخدامها.
هذا يفسر تلك التصنيفات الموغلة في الدقة، والمصرة على التفاصيل، الصادرة عن المؤسسات التربوية، عند محاولة تحديد مواصفات المداخل التعليمية، لدى تلك التي تستخدم، بشكل مكثف، تقنيات الاتصالات والمعلومات في تطبيقاتها وبرامجها التعليمية، فبتنا نسمع عن نظم تربوية مثل “التعليم عن بعد”، و«التعليم المحوسب”، و«التعليم الإلكتروني” ونستخدمها في حياتنا اليومية. واليوم تنامى الحديث، وخاصة في المؤسسات التربوية العريقة، من أمثال جامعة “إنسبروك” النمساوية، وكيمبريدج البريطانية، و«كلية الدنمارك للأعمال”، وجامعة غلاسكو في اسكتلندا، ما أصبح يعرف باسم “التعليم المتناهي الصغر”.
والتعليم المتناهي الصغر، هو مدخل حديث الولادة عند تناول النظريات التربوية في قطاع التعليم، والغرض من الاستعانة به هو تعزيز دور التعليم القائم على استخدام التقنية في المراحل المختلفة من مراحل التعلم أو اكتساب المعرفة. ويستند التعليم المتناهي الصغر على مبدأين متكاملين، أولهما الاستفادة من التكرار المتتابع بوتائر زمنية محسوبة بدقة، في اقتناء وتخزين أكبر كمية من المعلومات في الدماغ. أما المبدأ الثاني، فهو تحديد كمية مكونات تلك المعلومات بدقة متناهية أيضاً لضمان توافقها مع قدرات الذهن الاستيعابية للإنسان. وربما يجادل البعض بأن هذا المزج، في العملية التعليمية، القائم على التكرار، إنما هو تقليد قديم طبقه الإنسان، ولو بشكل عفوي، عند تلقيه الجرعات التعليمية الأولى في تلقي دروس اللغة من والديه أو أقاربه المحيطين به، أو حتى عند البدء في تعلم العزف على إحدى الآلات الموسيقية.
في الوقت الراهن، يستعين منهج التعليم المتناهي الصغر، ما يمكن أن يطلق عليه التعلم باستحدام “النبضات المعرفية” (Knowledge Pulse®)، وهي عبارة عن استخدام ذكي للحاسوب الذي يتولى تلقي المعلومة، ثم يباشر في تجزأتها، بشكل ذكي، إلى مكونات مستقلة لكنها مترابطة، كي تتحول إلى مخزون معرفي يعاد إرساله إلى متلقيه الإنسان في هيئة “نبضات” صغيرة متكررة، تفصل بينها فترات زمنية قصيرة محسوبة التتابع.
ومن أوائل المؤسسات التي ولجت هذا الطريق كانت “Lerntaktgeber mit Zugangsverz?gerung”. والحديث عن التعليم المتناهي الصغر، لا يتناول فقط المواد المرسلة، وإنما يخاطب بشكل علمي مبني على آليات عمل الدماغ البشري في تلقيه للمعلومة، وطرق التعامل معها من أجل نيل الفائدة القصوى المتوخاة منها، سواء في الاستخدام الفردي، أو حتى المجتمعي، في نطاق العلاقات التي يبنيها الفرد مع ذاته، أو مع المجموعات التي يرتبط بها في علاقاته اليومية، بما فيها المهنية والتربوية. وفي هذا المجال يقول الباحث الدماغي (Gerhard Roth)، إن “منطلقاته في تطبيق التعليم المتناهي الصغر تستند إلى حد بعيد، في إرسالها على هيئة نبضات المعرفية، إنما تعتمد بشكل أساسي، على آخر كشوفاته في البيولوجيا العصبية (neurobiological)، التي تؤكد أن الوحدات التعليمية الصغيرة، المترددة بوتيرة متلاحقة عبر وتائر متلاحقة ، تهيء الدماغ كي يكون في أفضل حالاته لتلقي المعلومات، وتحقيق الفائدة القصوى من مكوناتها”.
وخطى التعليم المتناهي الصغر خطوات ملموسة خلال العامين 2006/2007، عندما تمت تجربة منهجية استخدام جرعات “النبضات المعرفية”، في نطاق محدد هو “حافظات الشاشات المحوسبة المصحوبة بطلب تعليمي في قطاع معين ((Screensaver learning request ))، التي تبيح للمتعلم أن يكون على اتصال مباشر ومستمر دون الحاجة للبقاء مسمراً في مواجهة الحاسوب. تبيح النبضات المتتالية استمتاع المتعلم بما يحتاجه من التواصل مع مصدر المعرفة الذي يزوده بالمعلومات التي يحتاجها، وبالجرعات الصحيحة التي تشبع شهية ذلك الباحث، دون أن توصل الدماغ إلى مرحلة التخمة التي تشله، ومن ثم تفقده القدرة على معالجة المعلومات المعرفية، وتسخيرها لخدمة الأغراض التي ولدت الحاجة لديه كي تبدأ عنده عملية البحث عنها.
بطبيعة الحال لا بد من الإشارة إلى قضية في غاية الأهمية، وهي أن عمليات التعليم المتناهي الصغر، رغم اعتمادها الكبير على تقنيات الاتصالات والمعلومات، لكنها في نهاية الأمر، شأنها شأن أية عملية تربوية، أو تنموية في المجتمع، بحاجة إلى الإجراءات والسياسات المصاحبة للعمل بها والحاضنة لمكوناتها.
ولعل حجر الزاوية في هذا المجال، هو وضع السياسات، على مستوى الدولة المعنية، القادرة على، بموجب السياسات الصحيحة المستندة إلى قوانين وأنظمة سليمة، تنظم عملية إنتاج مكونات التعليم المتناهي الصغر أولاً، وحقوق استخدامها ثانياً، وتشريعات إعادة بثها لمستفيد آخر جديد ثالثاً وليس أخيراً.
ومن الطبيعي أن تقود مثل تلك التشريعات إلى التأسيس لصناعة تعليمية راسخة، تستند إلى تقنيات الاتصالات والمعلومات في جوانبها التقنية، وتستمد قوتها التنفيذية من تلك التشريعات التي تزودها بعناصر الحماية التي تحتاجها، وتمدها بعناصر الاستمرار التي لا تستطيع الاستغناء عنها، في مسيرة طويلة، نشاهد اليم خطواتها الأولى.
ربما من المبكر الحديث عن كل ذلك في مرحلة الانطلاق الابتدائية لهذا النمط من التعليم، لكنه بالقدر ذاته، من الخطأ القول إنها مسألة ماتزال بحاجة إلى الوقوف عند مستوى التفكير فحسب. فالقبول بذلك يفقد التعليم المتناهي الصغر تلك القوانين والسياسات التي توفر لها الضمانات التي تحول دون تعثر خطواته في المستقبل.
? اجتهاد شخصي لترجمة ما أصبح يطلق عليه في الأدبيات التعليمية اليوم مصطلح (Microlearning) قياساً على ترجمة الشركات الصغيرة والمتناهية الصغر (SME).
{{ article.visit_count }}
970x90
{{ article.article_title }}
970x90