على امتداد يومي 10 و11 يوليو 2012 احتضنت إحدى قاعات كلية اللاهوت في “جامعة إنسبروك” بالنمسا اللقاء السادس الخاص بالتعليم المتناهي الصغر. شارك في اللقاء مجموعة مختارة من المهتمين بهذا الموضوع من جنسيات مختلفة تمتد من اليابان شرقاً حتى الولايات المتحدة غرباً على المستوى الجغرافي، ومن أساتذة الجامعات وطلابها إلى مدراء الشركات وأصحابها على المستوى المهني. من الشرق الأوسط خلت قائمة المشاركين من أي اسم، باستثناء البحريني الجنسية رئيس شركة “الخليج لمستقبل الأعمال” ومالكها أحمد الحجيري.
توزعت أوراق اللقاء بين تلك التي تناولت المشروعات الأكاديمية المحضة التي ماتزال أبحاثاً ومشروعات في بعض الجامعات، مثل ورقة مانفريد تشيليجي (Manfred Tscheligi) من جامعة سيلزبرغ، والمعنونة “تجربة مستخدم المحتوى والسياق المتناهي الصغر” (Microcontent and Contextual User Experience)، إلى تلك المستقاة من تجربة سوقية محضة مثل ورقة “الاقتصاد التعلمي” (The Learning Economy) التي قدمتها مديرة الاستراتيجية الدولية والأبحاث في شركة “إنتل” العملاقة مارتينا روث (Dr. Martina A. Roth). كما كانت هناك بعض الأوراق الهجينة، التي جمعت بين البحث المجرد والتجربة التجارية، مثل تلك التي قدمها البروفسور بيتر بروك والمعنونة “البعد الاقتصادي للتعليم المتناهي الصغر: تجربة مشروعات استخدمت النبضات المعرفية” (The Economic Dimensions of MicroLearning: Learnings from Projects with the KnowledgePulse”.
طرحت الأوراق بعض المفاهيم الجديدة ذات العلاقة بالنظريات التربوية التي يوفرها مدخل “التعليم المتناهي الصغر”، والتي تناولها في الحلقة الأولى من هذه المقالة. لكن ما لا يقل أهمية عن ذلك هو التطبيق العملي والبعد الاقتصادي لهذا المدخل، والذي ألقت عليه الكثير من الأضواء خصوصاً في بعده الاقتصادي ورقة مارتينا روث.
قدمت روث لورقتها بمقولة جريئة تقوم على فرضية أساسية تقول إن البيئة الدولية على أبواب تغيير حتمي لا مناص منه يتمظهر في نزوع الاقتصاد العالمي نحو التحول، وموجة سريعة للتغيير السياسي، وتنامي الوصول إلى تقنيات الاتصالات والمعلومات واتساع نطاق استخداماتها، وازدياد حدة التنافسية السوقية. وعززت ذلك برسم بياني يؤكد أن دول العالم تقف أمام منعطف مفصلي، خلفيته اقتصادية، يحدد مستقبلها، فيأخذ بيد تلك التي تتماشى مع قوانين الاقتصاد الجديد ويرفعها نحو الأعلى، ويدمر تلك المتشبثة بالاقتصاد القديم ويرمي بها في القاع.
تضع روث العملية التعليمية القائمة على مدخل التعليم المتناهي الصغر في القلب من هذا التحول العالمي القادم. وانطلاقاً من ذلك ترسم روث صورة الترابط بين النظم التعليمية الجديدة المرتكزة على صناعة الاتصالات وتقنية المعلومات، والاقتصاد الجديد المستفيد من ذلك الترابط. وتضع روث خمسة شروط أساسية تضمن سلاسة وسلامة التحول التعليمي المطلوب هي: السياسات والأنظمة، والأبحاث والتقويمات، والمناهج والتقويمات، وتقنيات الاتصالات والمعلومات، والتطوير المتميز بدرجات عالية من المهنية.
وكشفت روث عن استثمارت شركة “إنتل” التي وصلت اليوم ما يزيد عن مليار دولار توزعت على ما يقارب من 200 مشروعات تم تنفيذها في 70 بلداً، صبت جميعها في تنمية البرامج المتجهة نحو الاقتصاد الحديث، القائم على خلفية التعليم المتناهي الصغر، الذي يرتكز من وجهة نظرها على أربع قوائم هي: الالتزام، والمشاركة، وبناء المجتمعات المستفيدة، والتواصل. ولم تنس روث، طوال مدة عرضها، أن تؤكد أن المحتوى هو الذي يسيطر أساساً على ذلك التحول المطلوب من الاقتصاد القديم المتراجع نحو ذلك الجديد المتنامي.
هنا لا بد من التوضيح، أن المقصود بكلمة المحتوى في الاقتصاد الجديد، وكما كشفت عنها معظم أوراق اللقاء، يتجاوز معناها المتعارف عليه في الاقتصاد التقليدي. إذ لم يعد المحتوى محصوراً في المعلومات فحسب، بل أصبح يشمل أيضاً الخدمات التي توفرها والمنتجات التي تقدمها صناعة تقنيات الاتصالات والممعلومات. وهذا التعريف هو الذي يميز بين دور تلك الصناعة في الاقتصادين القديم والحديث.
سبق روث إلى المنصة البروفسور بيتر بروك الذي صدم المشاركين بمقولة شبه استفزازية تقول “لن يكون هناك اقتصاد معرفي، بدون نبضات معرفية”. وأتبع ذلك بأطروحة تنص على أن “التعليم المتناهي الصغر يؤمن سلامة المصادر، في سياق الوصول إلى الأهداف التعليمية”، وهذا حسب أطروحة بروك يضمن البعد الاقتصادي لذلك النمط التعليمي.
وبعد أن يميز بروك بين نمطي التعليم التقليدي بكل أشكاله القديمة، والمتناهي الصغر بكل أدواته الحديثة، ويلفت النظر إلى أن التعليم القائم على المحتوى ذي الجرعات الصغيرة، والملائم للتعليم المتناهي الصغر يعبر عن نفسه من خلال مجموعة مميزة من الخصائص هي كونه؛ أكثر تركيزاً وتمحوراً، أشد قدرة فائقة على الاستقلالية، عدم التفريط في التماسك، والتقيد بالكليات، المحافظة على هيكلية واضحة المعالم، مضادة للتشويه.
وأنهى بروك عرضه الشيق، بتلخيص مكثف لخصائص التعليم المتناهي الصغر الأربع، وكان الأهم من بينها: التدرج في التعلم، والسهولة في الاستيعاب.
في الجلسة قبل الختامية من اليوم الثاني، كان بين المتحدثين أستاذ علم النفس التربوي في جامعة تينانسي الأمريكية جيمس تاكرالذي استهل عرضه بتساؤل فيه الكثير من التحدي الذهني، عندما طلب من الحاضرين تعريف المشاركين في اللقاء لتعبير “المستوى الإرشادي” (Instructional Level)، التي يعتبرها هو “تلك المرحلة من التفكير التي يحس فيها الطالب بامتلاكه الكميات الكافية من المعرفة والمهارات اللتين تؤهلانه للتفاعل بنجاح مع المهام المطلوب إنجازها، دون أن يفقد القدرة على تعلم المزيد من المعرفة”.
ويستعين تاكر بالعديد من التجارب الحية التي أجريت على مجموعة مختارة من المدارس الإعدادية والثانوية الأمريكية من أجل التوصل إلى الأبواب المعرفية التي يفتحها أمام طلاب المعرفة والمزودين بها من مؤسسات وأساتذة التعليم المتناهي الصغر، قبل أن ينتهي إلى لفت النظر إلى مفهوم تعليمي جديد يطلق عليه صفة “الزيادة التكرارية” (Incremental Rehearsal)، التي يعرفها بأنها تلك “الاستراتيجية التعليمية التي توفر المعلومات في هيئة جرعات متزايدة صغيرة تسمح بالتكرار الضروري الذي يضمن التعلم التلقائي لمن يتلقاها”.
تلك العينة من الأوراق تلقي الضوء على بعض المحاور الرئيسة في ذلك اللقاء، لكنها لا تغطي الأوراق كافة، كما إنها تحاشت الخوض في النقاشات التي كانت هي الأخرى مهمة وغنية من حيث التساؤلات أو المعلومات، التي تستحق الوقف عندها كي يتمكن القارئ من متابعة هذا المدخل من السياسات التعليمية المستقبلية التي بدأت الدول الصناعية، وخاصة الأوروبية ولوجه.
يثير في ذهن العربي ممن حضر ذلك اللقاء تساؤلاً في غاية الأهمية هو: أين نحن العرب من التعليم المتناهي الصغر؟ فمدارسنا، بما فيها تلك التي يسيرها القطاع الخاص، خاضعة لبرامج ومناهج القرن العشرين في أفضل الحالات، وسياساتنا التربوية، ماتزال تصر على التشبث بسياسات التلقين.
وطالما كانت مدخلات التعليم على هذا النحو، فمن الخطأ أن نتوقع أن تكون مخرجاته أفضل مما تقذف به مؤسساتنا التعليمية من مخرجات أكل عليها الدهر وشرب.