رسالة من ضمن رسائل «البرودكاست» العديدة التي تبعث على أجهزة الهاتف النقال تقول بأن «حاسبوا يا جماعة، كاميرا سرعة مثبتة على الجسر»!
لوهلة أولى تظن بأن الرسالة تحذر من كارثة حقيقية تضر بالناس، أو عاصفة رملية قد تودي بحياة من يسوق سيارته على هذا الشارع، لكنها في الواقع تحذير من كاميرا مثبتة لضبط السيارات التي تسير بسرعة تفوق سرعة الشارع المسموح بها!
في بلداننا الخليجية والعربية نجد المعايير مقلوبة تماماً فيما يتعلق بالصواب والخطأ، رغم أننا من نفاخر بين الأمم بأننا خير أمة بعثت للناس، من منطلق أن ديننا يحث على مكارم الأخلاق ويدعو لفعل الصواب وتجنب الأخطاء والزلات، لكن واقعنا غير ذلك تماماً.
في أبسط ممارساتنا اليومية نجد أننا نمارس الخطأ ونبرره، بعدها ندعي أن الغرب يعيش ضلالاً وانغماساً في الزلات والأخطاء.
أذكر أن أحد المفكرين الإسلاميين قال بأنه رأى الإسلام يطبق كمبادئ وأخلاق ومعاملة في الغرب لا في بلدان العرب، من منطق أن الناس هناك تلتزم بالآداب العامة وبالأخلاقيات السوية التي هي الأساس الذي فطر عليه الإنسان.
أعود للرسالة النصية، إذ ديننا يقول «تعاونوا على البر والتقوى»، ويبدو أن دافع من أرسل الرسالة مبني على ذلك، لكنه للأسف نسي بأن هذا ليس تعاونأً على البر بقدر ما هو تعاون على «تجاوز» القانون وإقرار بأن الناس لدينا لا تحترم لا ضوابط القيادة في الشارع ولا تلقي اعتباراً أبدا لهذه الأمور.
أضرب مثالاً بسيطاً هنا، وهدفي أكبر منه، فالشعوب لا ترتقي بمجتمعاتها إلا حينما ترتقي بأسلوب حياتها وبممارساتها.
في الغرب الذي نعيب عليه ونعتبره غارقاً في الضلال القانون يوضع فوق كل شيء، وفي حالتنا هذه التي نتحدث فيها عن «بعبع» كاميرا ضبط السرعة، نجد المفارقة كبيرة جداً في شأن الالتزام بالضوابط.
الفارق في المسألة ليست العقوبة أو المخالفة التي ستمنح لفلان أو علان المتجاوزين، بل تكمن في القناعة واليقين بأن هذا فعل خاطئ أو فعل صائب، تكمن في الإنسان نفسه ورقي تفكيره وإيمانه بالصح والخطأ، بالتالي لا هو يحتاج لتحذيرات لأنه أصلاً يقوم بهذه الممارسات من تلقاء نفسه.
إن كنا طرقنا مسألة متعلقة بالضوابط المرورية، فإننا نرى في مجتمعاتنا ممارسات تسود وهي ممارسات معاكسة تماماً عن ممارسات الغرب أو أولئك المؤمنين بالفكرة لا الخائفين من العقاب، فمثلاً حزام السلامة لا احترام له ولا اعتراف به إلا حينما نرى رجل المرور فنسارع وكأننا في سباق جري لوضع الحزام لتجنب المخالفة، لكن في المجتمعات المتحضرة أو في قناعة الأشخاص المؤمنين بالصواب والخطأ يوضع الحزام قبل أن يتحرك السائق بسيارته. وفي نفس السياق حينما نتحدث كاميرات السرعة فإننا ننظر لها وكأنها رشاشات ومنصات إطلاق صواريخ، بينما المنطق يفرض وجودها لضبط تهور البعض حتى لا يضر بنفسه والآخرين، والمقتنع بالمسألة لا يحتاج لتهويل كونه أصلاً لا يفكر بتجاوز القانون.
المسألة تبدأ بالقناعة، ثم تتأصل لتتحول إلى ممارسة، لكننا أصلنا ممارساتنا على تجاوز القانون، واعتبار أن «الفهلوة» حينما تخرق القانون دون أن تضبط.
حاسبوا كاميرا سرعة مثبتة على الجسر! طيب ما المشكلة هنا؟! من يتجاوز السرعة يفترض أن يمنح مخالفة، أليس كذلك؟! أليس هذا الصواب؟!
والله المعايير مقلوبة في مجتمعاتنا لأن قناعة الأشخاص بما هو صحيح وخاطئ غائبة، بالتالي نرى التبرير لكل فعل خاطئ موجود وعلى الفور.
في شأن ضبط متجاوزي السير ستقولون إدارة المرور تستهدف جيوبنا، وحينما نرى إنساناً يلهف الأموال ويقوم بالتجاوزات ليستغني نقول «والله عارف لها»، وحينما نرى شخصاً يترقى في عمله بسبب تحايله على المسؤولين بـ»الفهلوة» نقول عنه «شاطر وفنان»! والأمثلة كثيرة جداً لو جئنا نحصي.
بناء على هذا المعيار وقياساً على المثال الذي بدأنا به هذه السطور يفترض بنا أن ندعو للمعنيين في إدارة المرور بالهداية. يعني يا جماعة لازم تحطون للناس كاميرات سرعة؟! خلوها سايبة علشان تتحول شوارعنا لحلبة سباقات على الدوام؟! الناس بكاميرات وغيرها أصلاً ينفذون محاولات طيران بسياراتهم في الشوارع، تضيقون عليهم ليش، خلوا الناس «تطير»!!
لو استدعى الأمر وضع ألف كاميرا في كل شارع رئيس للحفاظ على أرواح الناس وضبط التصرفات الطائشة غير المسؤولة، يفترض بأن نكون أول المؤيدين لا أول المحذرين.
ألم أقل لكم بأن معاييرنا مقلوبة، والكارثة أننا نعيب غيرنا والعيب فينا.