منذ ما يقارب من عامين هبت على المنطقة العربية، ما أصبح يعرف في الأدب والقاموس السياسيين ذي العلاقة بالبلدان العربية باسم “الربيع العربي”، الذي يكاد أن يحوز على شبه إجماع أن من أطلق رصاصته الأولى هو التونسي محمد البوعزيزي عندما أحرق نفسه، تعبيراً عن رفضه للحالة الاجتماعية الرثة التي كان يعيشها بشكل عام، وكردة فعل عفوية على التعامل القاسي غير المبرر الذي واجهه من قبل مؤسسات السلطة حينها، التي حاولت أن تجرده من مصدر رزقه الوحيد، بإرغامه على إخلاء المكان الذي اختاره لعرض بضاعته فيه، على نحو خاص ومباشر.
اندلعت الشرارة الأولى من تونس، وعبرت حدودها كي تصل إلى مصر، وتنتقل منها إلى ليبيا، وتتطاير شرارتها الأخرى كي تبلغ اليمن، قبل أن تعود كي تحط رحالها في دمشق التي ماتزال حتى يومنا هذا تشهد اليوم حرباً أهلية في غاية الشراسة، لم تؤد إلى انقسام مكونات المجتمع السوري فحسب، بل نجحت في شطر أكثر مؤسسات الدولة تماسكاً، وهو الجيش العقائدي السوري. تركت تلك الرياح العاتية التي هبت على تلك البلدان آثاراً عميقة -ربما لم يظهر منها حتى الآن سوى رأسها الصغير- لم يعد من المنطق في شيء، ولا الصحيح أيضاً إهمالها أو تجاوزها. بل ربما كان الأهم من مجرد تلمس الآثار الناجمة عنها والنتائج التي خلقتها على الأرض فحسب، هو ذلك المدخل الشامل الذي يثير تساؤلات استراتيجية، تمس، بالإضافة إلى كل ما تقدم، أسبابها الموضوعية والذاتية، ونتائجها الراهنة مربوطة بتداعياتها المستقبلية، مما يستحق التوقف عنده، ومحاولة فهمه، بشكل موضوعي صحيح، والإجابة عنها بمنهج علمي سليم.
أول تلك التساؤلات الجوهرية الاستراتيجية في آن واحد، هو ما هي الأسباب التي أدت إلى اندلاع نيران “الربيع العربي”؟ ومن ثم فإن البحث عن الأسباب يقتضي، كي يكون المدخل علمياً، تجاوز تلك الأنماط الشكلية والمباشرة، والغوص فيما أعمق من ذلك، وأكثر شمولية، كي يتم رؤيتها في إطارها السياسي المتكامل، المستند إلى خلفيات اجتماعية، اقتصادية مترابطة. والانطلاق من ذلك للجمع بين زوايا المثلث الثلاث: سياسة، اجتماع، اقتصاد، القائم على فهم ذلك الترابط الهندسي المجتمعي الذي يولد علاقة التكامل تلك. أية نظرة مخالفة لذلك ربما تقود إلى تشويه صورة ذلك المجتمع، أو تجزئتها إلى تكوينات صغيرة متناثرة. ففي حال كسر أي من زوايا ذلك المثلث، أو حتى مجرد إهمالها، ولو لفترة زمنية قصيرة، يفقد السائر بوصلتها التي لا يستغني عنها من إجل إرشاده إلى هدف إبحاره الصحيح. فتقفي آثار الأسباب، يتطلب ذلك الربط الجدلي الديناميكي، المنطلق من رؤية تلك التفاعلات المتبادلة بين تلك الزوايا الثلاث، مع الابتعاد عن التوقف عند شكلها الظاهر الثنائي الأبعاد المسطح، والتمسك بالنظرة المركبة الثلاثية الأبعاد، القائمة على رؤية الهرم المكون من مجموعة مثلثات صغيرة لكنها متراصة ومتكاملة توفر الآفاق الضرورية التي تمكن المتسائل من رؤية الصورة على حقيقتها، وفي فضائها المركب الصحيح، لا المسطح المشوه، الذي لا يمكن أن يقود إلى قراءة صحيحة تفصل بين مجموعة التساؤلات وتضع كلاً منها في موقعه الصحيح، كي يحتل الحيز المكاني والزمني الذي يحتاجهما.
ثاني تلك التساؤلات ذات الأفق الاستراتيجي، هو لماذا بدأ “الربيع العربي” من تونس دون سواها من البلدان العربية الأخرى، والتي يعيش البعض منها حالات، إذا ما أردنا التمسك بذلك المثلث الذي رسمنا صورته في التساؤل الأول وعلاقات الترابط بين زواياه، تتجاوز في تردي أوضاعها الساسية والاقتصادية والاجتماعية تلك التي تعيشها تونس؟ وينبثق عن هذا التساؤل، تساؤل آخر منسلخ منه هو، هل كانت الظروف التونسية الباحثة عن التغيير قد بلغت من النضج والتهيؤ ما هو أفضل من شقيقاتها العربيات، فشكلت الحالة الأكثر استعداداً للتعبير عن نفسها، والتمظهر الذي شاهدناها عليه؟ قراءة هذا التساؤل، بشكل صحيح، تقتضي مرة أخرى، تشخيصه في نقطة التقاء الأضلاع المنصفة لزوايا ذلك المثلث الذي رسمت قواعد زوايا التساؤل الأول. فبتر أي من أضلاع التنصيف تلك، ستحرف الإجابة عن نقطة الالتقاء التي تتبأر عندها الإجابة، وستقود إلى نوع من الحول المنهجي، الذي يرى الأشياء من الزاوية الخطأ، ويتابع مسارها عبر طرق لا تقود نحو الهدف الصحيح، ومن ثم تحرف التساؤل عن مساره الذي يفترض أن يلتزم به ويطبق قوانينه، إن شئنا له أن يهدينا إلى طريق الصواب.
ثالث تلك التساؤلات هو، لماذ لم تقف نيران التغيير عند حدودها التونسية، بمعنى، ما هي القواسم المشتركة، في نطاق الأسباب، بين تونس والدول العربية أخرى، التي أججت من تلك النيران، وساعدت على انتشارها في هشيم البلدان العربية الأخرى، ليست المجاورة لتونس فحسب، مثل ليبيا ومصر، وإنما حتى تلك التي تبعد عنها عشرات الآلاف من الأميال مثل اليمن؟ هنا ينبغي تحاشي النظرة التحليلية التقليدية، التي تقف عند قواسم اللغة والجغرافيا والتاريخ والثقافة، وتذهب إلى ما هو أبعد وأشد عمقاً، وأكثر اتساعاً، فتأخذ في حساباتها العوامل الجديدة التي طرأت على المجتمعات العربية الراكدة، بفضل ثورة الاتصالات والمعلومات من الناحية التقنية من جهة، وتفاعلها مع القطاعات الشابة الأكثر رغبة في التغيير، والأشد تهيؤاً له من الناحيتين الاجتماعية والسياسية، دون إغفال غير مطلوب لتلك التقليدية، بل من خلال تفاعلها مع تلك الجديدة، والخميرة التي تولدت من تفاعل الاثنين، قبل أن تمارس دورها في إحداث التغييرات التي حملتها معها رياح “الربيع العربي” من جهة ثانية. مرة أخرى هنا يجب التحذير من البتر، حتى غير المقصود، الذي يفصل بين ثورة الاتصالات والمعلومات من جانب والتحولات التي تشكل زوايا ذلك المثلث الذي رسمناه من الجانب الثاني.
رابع تلك التساؤلات هو، ما هو السبب الذي حال دون رؤية حكام الأنظمة، مثل مصر واليمن، التي هبت عليها رياح ذلك “الربيع”، بوادر تلك الرياح وهي في طريقها إلى بلدانهم، واختاروا سد آذانهم كي لا يسمعوا أزيز طلقاتها، فعميت أبصارهم عن رؤيتها وهي قادمة إلى بلدانهم من تونس، بل ربما يسبق ذلك تساؤل آخر، ما الذي حال دون تلمس الرئيس التونسي بن علي الشعور بلسع نيران تلك الرياح وحرارتها ترتفع من تحت قدميه، حتى بعد أن أشعل البوعزيزي النار في جسده النحيل، ومن ثم يبادر، بن علي، إلى الأخذ بحل وسط، ربما كان يبقيه في السلطة، فيما لو أجرى بعض الإصلاحات، وقدم بعض التنازلات، التي لن تكون بطبيعة الحال طفيفة وتجميلية، ترضي المعارضة، وتهدئ من شدة سرعة الرياح، وربما تغير من اتجاهاتها، بعد أن تمتص نقمة المواطن التي تقف وراءها، وتذكي إشتعال نيرانها