ما إن تم الإعلان عن حادث مقتل الدبلوماسيين الأمريكيين في ليبيا حتى تسابق المثقفون العرب والإعلاميون والسياسيون إلى إعلان موقفهم بصراحة من السلوك العدائي تجاه السفارات الأمريكية وهذا الحادث بالتحديد، لأن إيماننا أولاً وأخيراً أن التعبير يجب أن يعبر عن شخصية وهوية المجتمع والعقيدة التي نعتنقها، وعقيدتنا هي قمة التحضر، وإيماننا كذلك إنه حتى لو كانت الدول العظمى قد سنت قانون الانتقام دولياً وأباحت جرائم الحرب تحت مسمى مكافحة الإرهاب أو غيره فإننا يجب أن نحافظ على أخلاقنا مهما كانت الظروف فهذا ما كان المسلمون يحرصون عليه حتى في غزواتهم وهذا ما أوصانا به رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم، واعتبروني متخاذلة أو جبانة لكني أعتقد أن هناك سبباً وجيهاً آخر وهو أن العنف من قبلنا سيكون لا شيء مقابل الهجمة الانتقامية التي يمكن أن تطال دولنا التي تعيش تبعات عقود تحت أنظمة فاسدة تلاها الربيع العربي وتحتاج نقاهة لا مواجهة مع قوة عظمى.
لكن الاستنكار العربي والإسلامي لمقتل الدبلوماسيين وأحداث العنف لم يمنع من خروج مئات التصريحات الأمريكية المستفزة سواء من أوباما وبيته الأبيض أو الإعلام من تلفزيونات وصحف وغيرها، ونبرة الاستعلاء والتهديد والتهجم جعلت المسلمين يستنفرون أكثر، فالمؤمن لا يلدغ من جحر مرتين واللدغة الأولى -الويلات التي جرها برجا التجارة على عالمنا المسلم- لم تعالج بعد ولازالت بنفس الألم وكأنها حدثت البارحة، ضحاياً بلا عدد وأيتام وثكالى ودول دمرت وصفقات خسرنا فيها دماءً وكرامةً وأموالاً ونفطاً، ولن يبرأ هذا الجرح عما قريب ولن تسقط من ذاكرتنا أسماء مثل غوانتانامو وأبوغريب ولن ننسى من جعل الشعوب تدفع أثماناً باهظة بلا ذنب.
للأسف فإن تبعات الفيلم المسيئ نبشت جروحاً مؤلمة، حتى وصفها المراقبون بأنها أقرب ما تكون لحالة الحادي عشر من سبتمبر تتفجر من جديد، نفس التحفز والجو العدائي، ذكرتنا بالعراق وأفغانستان وبحزمة التغييرات التي هي أقرب ما تكون باحتلال جديد للإقليم تحت اسم الحرب ضد الإرهاب، يكذب من يدعي أنه لم يفكر بأن ليبيا والنفط الليبي هو الهدف الجديد للأمريكان وأن حادث السفارة هو الذريعة المطلوبة.
مشكلة الإدارات الأمريكية المتعاقبة أنها تريد منا أن نتعامل معها بغض النظر عن كونها دمية بيد الرأسمال الصهيوني وأن الصهيونية لا تؤمن بأي إمكانية للتعايش بسلام مع العرب أو المسلمين، وتريدنا أن نصدق أنها تحارب الإرهاب، لا أرى فرقاً بينها وبين سفاح سوريا الذي يزعم أنه في مواجهة مع الوهابية وجل ضحاياه نساء وشيوخ وأطفال ورضع، ونحن حين نلتفت إلى مبررات وتكييف الجريمة بلسان المجرم فإننا نكذب على أنفسنا لنريح ضمائرنا، فلا أمريكا سوت المدن وأهلها بالأرض ولا الأسد حول سوريا إلى جثث وأشلاء ونهر دماء بسبب ديمقراطية أو حريات أو حرب مبررة مع حركات متطرفة وإرهابية، الاثنان حربهما ضد عرق ودين ومذهب مختلف، والدليل مدى قناعة الجيش الذي يخوض هذه الحرب، الجيش الأمريكي يعج بالعلل النفسية؛ سلوكيات الجنود الأمريكان في العراق وأفغانستان سلوكيات انتقامية مريضة وحالات الانتحار بلا عدد، جيش الأسد آخذ في التمزق، والانشقاقات في تزايد وربما أغلب ما تبقى منه يبقيه الخوف لا الولاء ولا الإيمان بالحرب ضد الوهابية.
وجه الشبه بين الأسد وإدارة أمريكا أنهم يكذبون على أنفسهم ويريدون أن نصدق، ويبررون البطش وسوء استخدام القوة والعنف بتبريرات حمقاء، أين الإرهابيون؟ أين القاعدة؟ أين المتطرفون؟ كل ما نراه مدنيين قصفت بيوتهم ودفنوا تحتها ونساء اغتصبن وقتلن وأطفال مزقوا إلى أشلاء وحرقوا ويتموا وشردوا، وحشية حيوان ينتقم بكل ما أوتي من مخالب وأنياب، لا إنسان يدافع عن مبدأ ويحارب الشر، القاعدة لن تنتهي والإرهاب لن ينتهي وقد يعود بن لادن إلى الحياة لأن أنظمة كتلك تحتاج دوماً إلى قصة ركيكة تبرر بها جرائمها.
{{ article.article_title }}
{{ article.formatted_date }}