كلما مررت بمقولة (اصنع المعروف في أهله وفي غير أهله، فإن لم تجد أهله فأنت أهله) أتوقف كثيراً، وأرى الطبيعة الإنسانية في أجمل صورها. فإن تخدم الآخرين، كما طرحته كل الديانات السماوية وغير السماوية وكل الفلسفات الشرقية والغربية، حيث إن هذه الخدمة التي تقدمها للآخرين تعني، قبل كل شيء آخر، معنى وجودك في رحلتك الأرضية، فأنت لست أكثر من روح جاءت من مكان ما لتعيش في جسد محدد وزمن محدد وأرض محددة، من أجل أن تتعلم وبعدها تعود إلى مكانك الأول وبيتك الأول، وأنت محمّل بثقافة أهل الأرض أو ثقافة الفترة التي قضيتها في ما يسمى بالدنيا. فعن ابن عمر رضي الله عنهما: أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال يا رسول الله: أي الناس أحب إلى الله؟ وأي الأعمال أحب إلى الله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “أحب الناس إلى الله تعالى أنفعهم للناس، وأحب الأعمال إلى الله تعالى سرور تدخله على مسلم، أو تكشف عنه كربة، أو تقضي عنه ديناً، أو تطرد عنه جوعاً، ولأن أمشي مع أخ في حاجة أحب إليّ من أن أعتكف في هذا المسجد -يعني مسجد المدينة- شهراً، ومن كف غضبه ستر الله عورته، ومن كظم غيظه -ولو شاء أن يمضيه أمضاه- ملأ الله قلبه رجاء يوم القيامة، ومن مشى مع أخيه في حاجة حتى يثبتها له، أثبت الله قدمه يوم تزول الأقدام”. وللشيخ علي الطنطاوي الكثير من الحكايات والقصص التي تحولت إلى أمثال وحكم يرددها من استفادوا من علمه، ومن هذه القصص يسوقها كمثل من الأمثال الكثيرة التي يحفظها، وهي قصة الشيخ سليم المسوتي رحمه الله، وقد كان شيخاً أبياً، وكان -على فقره- لا يرد سائلاً قط، ولطالما لبس الجبة أو “ الفروة” فلقي بردان يرتجف فنزعها فدفعها إليه وعاد إلى البيت بالإزار، وطالما أخذ السفرة من أمام عياله فأعطاها للسائل. وكان يوماً في رمضان وقد وضعت المائدة انتظاراً للمدفع، فجاء سائل يقسم أنه وعياله بلا طعام، فابتغى الشيخ غفلة من امرأته وفتح له فأعطاه الطعام كله!، فلما رأت ذلك امرأته ولولت عليه وصاحت وأقسمت أنها لا تقعد عنده، وهو ساكت.. فلم تمر نصف ساعة حتى قرع الباب وجاء من يحمل الأطباق فيها ألوان الطعام والحلوى والفاكهة، فسألوا: ما الخبر؟، وإذا الخبر أن سعيد باشا شموين كان قد دعا بعض الكبار فاعتذروا، فغضب وحلف ألا يأكل أحد من الطعام وأمر بحمله كله إلى دار الشيخ سليم المسوتي، قال: أرأيتِ يا امرأة؟ إن مساعدة الآخرين على جميع المستويات، هي في واقعها ليست إلا مساعدة لأنفسنا والاغتسال من أدران الدنيا وأوساخها، والتي لا بد أن تصيبنا مهما حاولنا الابتعاد عنها. فأي نوع من أنواع المساعدة للآخرين، صغاراً أو كباراً، محتاجين وغير محتاجين، أرامل وأيتاماً، سوف يعود إليك، ليس منهم مباشرة إنما من جهات أخرى لا يعلمها إلا الله أضعافاً مضاعفة، فأنت في هذه الحالة لا تعطي دون مردود، فالمردود قادم إليك لا محالة. لكن عليك ألا تنتظره، وكما نقول في بلادنا الرائعة (سو خير وقطه في البحر). من هنا لا تقول، أنا قدمت الخير لإنسان ما يستاهل، فإن لم يكن يستاهل فأنت تستاهل أن تقدم الخير ولا تتوقف عن تقديمه في الأحوال التي تمر بها. “سو خير وقطه في البحر”.