لا يوجد مكان كتلك المدينة الفاضلة التي تخيلها الفلاسفة، فآمن بعضهم بإمكانية إقامتها، في حين ذهب الأغلبية إلى أن الأوقع هو المفاضلة بين الإيجابيات التي لا بد من وجودها والسلبيات التي لا يمكن تحاشيها، فإن كانت الإيجابيات تزيد على السلبيات فالمجتمع صحي ويسير بالاتجاه الصحيح، وإن كانت السلبيات تفوق الإيجابيات فإن ذلك المجتمع متعثر ويسير بالاتجاه الخاطئ، كل ذلك طبعاً بناءً على معايير ومؤشرات علمية تقيس بدقة أداء كل قطاعات الدولة بدءاً من السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية وحراك مؤسسات المجتمع المدني والقوى السياسية ومستوى المعيشة والحريات والخدمات الصحية والتعليمية ومعدل البطالة والتوزيع العادل للثروة ومحاربة الفساد، وصولاً إلى تفاصيل أكثر دقة؛ كالعمر المتوقع عند الولادة، ومعدل وفيات المواليد، وأوضاع المرأة والطفل وغيرها كثير مما قد يكون غائباً عن الناس. وإذا ما وضعنا كل تلك المعايير أمامنا ندرك تماماً أن البحرين ليست المدينة الفاضلة، لكنها دون أدنى شك تسير بالاتجاه الصحيح، فلو رجعنا إلى التقارير الدولية لنمو الناتج المحلي الحقيقي في البحرين نجده أنه قد بلغ 4% عام 2010، وبمعدل تضخم يساوي 2% مع نسب بطالة لاتتعدى 4%، وارتفاع متوسط عمر الفرد إلى 72 عاماً، والكثير من المؤشرات الإيجابية الأخرى، لكن ذلك لا ينفي وجود سوء في توزيع الثروات الوطنية ومخاوف من تقلص الطبقة الوسطى ومظاهر فساد مالي وإداري ينشر عنها تقارير سنوية. لماذا نقول ذلك؟ ولماذا اخترنا العام 2010؟ لأننا ببساطة أردنا استعراض الواقع في العام الذي سبق عام 2011 مباشرة، والذي شهد أزمة مفتعلة حاولت ارتداء قميص الثورات العربية، وشتان بين الواقع السياسي والاقتصادي والمعيشي والاجتماعي في البحرين وبين تلك الدول، البحرين التي مازالت تؤسس لتجربتها الديمقراطية التي شارك في انطلاقتها الجميع بكل نجاحاتها وإخفقاتها، بكل لحظات تميزها وتعثرها، بخطواتها السريعة حيناً وبطئها حيناً، بل وحتى تراجعها حيناً آخر، لكنها كانت تسير في مجملها باتجاه تصاعدي، فحرية التعبير لا تقارن مع مرحلة ما قبل سنوات الإصلاح وبداية تأسيس الحياة البرلمانية وازدهار حراك ودور مؤسسات المجتمع المدني والجمعيات السياسية، بما فيها المعارضة الممثلة نيابياً، والتي تلقى التسهيلات والاعتراف والاحترام من الدولة. كان الحال كذلك حتى نهاية 2010، وكنا نعلم جميعاً أن هذا المشروع لم يكتمل بعد وأن ثماره لم تجن كلها، لا على المستوى السياسي ولا الاقتصادي ولا غيره؛ بل لعل هناك من كان يحاول أن يضع أمامه العراقيل، فللتغيير معارضون في كل مكان، وهناك متضررون من الإصلاح ومحاربة الفساد، ولا يريدون مزيداً من التحولات الديمقراطية، لكننا حين نتحدث عن واقع البحرين آنذاك لابد من وضع كل معطياته في (الميزان)، ولابد أن نتقبل النتائج بكل رحابة، لأنها تصب في مصلحة الوطن الذي قد يكون حقق تطورات كبيرة في مجالات معينة، لكنه أيضاً لم يحقق المطلوب وتعرض لإخفاقات في مجالات أخرى!! لذلك حينما وقعت الأزمة كنا نكرر ما نقوله اليوم؛ لو أنها كانت تسعى فعلاً وفقط لإصلاحات سياسية واجتماعية واقتصادية ومزيد من العدالة في توزيع الثروات ومحاربة الفساد لوقفنا معها دون تردد، لكن مفتعليها انقسموا بين من أراد اختطاف شرعية نظام الحكم وبين تائه لا يعرف ما يريد!! وآخرين أرادوا تغيير التركيبة السياسية للدولة، وهي التركيبة التي توافق عليها غالبية أبناء الوطن والمتسقة مع ما هو مستقر في محيطنا الخليجي الذي تحكمة ظروف واعتبارات تاريخية واجتماعية متداخله وثوابت لايمكن تجاوزها، لأن ذلك من شأنه أن يحدث هزة قد لا تستطيع المجتمعات استيعابها والتعامل معها، وحتى حينما جاءت مبادرة سمو ولي العهد ببنودها السبعة لم يتجاوبوا معها، وهي المبادرة التي ذكر تقرير بسيوني أنها لو قبلت في حينها لمهدت الطريق لإصلاحات سياسية واقتصادية كبيرة في البلاد. ولكي نهيئ اليوم لمرحلة سياسية قادمة مهما تأخرت، لا بد أن يكون واضحاً للجميع، وبالأخص لمفجري الأزمة، أن من دافع عن الدولة ونظامها وسيدافع عنها غداً لا يدعي أن البحرين تعيش أوضاعاً مثالية، بل لعلنا أكثر من غيرنا نطالب بمحاسبة الفساد والحفاظ على الثروات العامة وعدالة توزيعها وعدم الاكتفاء بتقارير لا تسمن ولا تغني عن جوع، ونطالب بتحسين الخدمات الصحية ورفع المستوى المعيشي وتحسين مخرجات التعليم، التي ما عادت توافق متطلبات السوق، فأداء مدارس الثانوي مثلاً حصل 45% منها على نسبه غير ملائم عام 2009-2010م، ونطالب بحل ملف الإسكان الجاثم على صدور الناس بطلبات فاقت الخمسين ألفاً، يعود أقدمها لسنه 93، وقد يكون من بين أصحابها من وقف في الفاتح دفاعاً عن الوطن والنظام، ونكرر سيقف غداً لو تطلب الأمر، بل إن الأكيد أننا جميعاً نعاني من ذلك كله، لكننا أبداً لن نجعل منه سبباً لضياع وطننا أو اختطافه، ولن نسكت عن العبث بمستقبله وأمنه، ولن نبالغ في انتقاده والتشهير به وإهمال إنجازاته والتقليل من مكتسباته، فننكر ثلثي الواقع ونكون كمن رفع الخبز بيد وهو يحمل بيده الأخرى (آي باد) .