هذه حقيقة لا مراء فيها، فالسفير الأمريكي في ليبيا كريس ستفينز لا علاقة له لا من قريب ولا من بعيد بإنتاج الفيلم الأمريكي المسيء لشخص الرسول صلى الله عليه وسلم، والدفاع عن الإسلام وعن نبيه الكريم لا يكون بسفك دم الأبرياء، حتى وإن كانوا من خارج المِلّة، ومن قوم يناصبون نبينا العداء، فلا تزر وازرة وزر أخرى، هذا ما تعلمناه من جوهر الدين الإسلامي السَمْح، وهذه القيم النبيلة هي الدفاع الأكبر عن ديننا الحنيف وعن نبينا الحبيب.
الفيلم المسيء لشخص الرسول صلى الله عليه وسلم، الذي أنتجته مجموعة من أقباط مصر المهاجرين إلى أمريكا بالتعاون مع بعض اليهود، فِيلْم مجهول لم يطلع عليه إلا القلة على الرغم من التضخيم الإعلامي له، وكان بالإمكان مواجهته بسبل شتى أبسطها إنتاج أفلام، بجميع اللغات، تدافع عن النبي صلى الله عليه وسلم، وشراء ساعات بث في القنوات العالمية لعرض برامج إسلامية تروج الصورة الصحيحة للإسلام، وقد يكون أشد هذه الطرق رفع دعاوى قضائية ضد منتجي الفيلم، أو أي سلوك دبلوماسي مع السفارات الأمريكية والخارجية الأمريكية، ولكن بعد مقتل السفير الأمريكي “البريء”، وأكرر “البريء” لأنها الصيغة التي سَتُسْتغل ضدنا، أتوقع أن يبلغ الفيلم الآفاق، وأن تكون جريمة القتل، للأسف، دليلاً يثبت صحة مضمون الفيلم بأن المسلمين “إرهابيون” يسفكون الدماء وأن الدين الإسلامي “دين إرهابي”!!
سنقرأ مشهد قتل السفير الأمريكي “البريء” في ليبيا ضمن سياق التحولات السياسية في العالم العربي، فبعد موجة ما يصطلح عليه بـ«الربيع العربي” وصلت الأحزاب الإسلامية في مصر وتونس إلى سدة الحكم، عن طريق صناديق الاقتراع، هذه إذاً إرادة الشعوب العربية، ولكن بدأت هذه الأحزاب تهمش باقي التيارات السياسية، وتستأثر بإدارة الدولة وحدها، هذا ليس كلاماً مرسلاً، فرسالة الرئيس التونسي منصف المرزوقي في افتتاح المؤتمر الثاني لحزب “المؤتمر من أجل الجمهورية” الذي عقد الشهر الماضي فيها تصريح واضح ومباشر عن عمل حزب النهضة “الإسلامي” الحاكم على تولِية أتباعه كافة مفاصل الدولة، على أساس الولاء والتعاطف مع الحزب، لا على أساس الكفاءة، بالتالي حمل المرزوقي سلوكهم الإقصائي مسؤولية تأخير تنفيذ المشاريع التنموية، وعرقلة تحقيق أهداف الثورة التونسية.
وفي مصر يدور جدل كبير حول عمل حزب “الحرية والعدالة”، الحزب الحاكم “إسلامي”، على ما أصبح يُتعارف عليه بمشروع “أخونة الدولة”، أي تولية الإخوان كافة مفاصل الدولة، ويستدلون على ذلك بالتعيينات الأخيرة لرؤساء تحرير الجرائد المصرية والمحافظين وأعضاء المجلس القومي لحقوق الإنسان، وهي وظائف لا يتغير شاغروها بتغير الحكومة أو الحزب الحاكم، بل هي وظائف عمومية ثابتة.
في سوريا ثورة لم تكتمل بعد، بدأت المؤشرات الأخيرة تدل على انحرافها من ثورة تطالب بتغيير نظام الحكم وتعديل الدستور وإقامة إصلاحات تنشر العدالة والديمقراطية والتنمية الاقتصادية والاجتماعية إلى حرب طائفية وإلى جهاد مقدس ضد عدو لم تتضح صورته بعد.. العلويين / إيران/..؟!!!، والخليج العربي يعيش اضطرابات طائفية تتحرك مفاتيح التحكم فيها من إيران والعراق، و«حزب الله” حاضر دائماً، واليمن شماله يكتوي بنار الحوثيين، وجنوبه صار وكراً لـ«القاعدة».
والمشهد صار مزحوما ًبفرقة من “مشايخ دين” انبروا للدفاع عن الأحزاب السياسية الإسلامية وعن الفرق المتشددة، وشنوا حروباً على مخالفيهم، الأمر الذي جعل طيفاً واسعاً من الشعوب العربية التي أوصلت الإسلاميين إلى سدة الحكم تقلق على مستقبل بلدانها، ومستقبل الحريات العامة والتنمية والديمقراطية، في ظل تيارات إسلامية يبدو أنها تعيد سيرة الدكتاتورية بشكل جديد.
الوطن العربي إذن، قد يكون مؤهلاً لأن تتهمه أمريكا والغرب بأنه صار حاضنة للتطرف والصراعات الإسلامية، والذريعة الأولى لأي تدخل خارجي من أي نوع، ولأي مطالبة أمريكية بتعديل السياسات العامة، هي قضية مقتل السفير الأمريكي “البريء” الذي تقول بعض التقارير الأمريكية أن بصمات “القاعدة” ليست غائبة عن مسرح الجريمة، والذريعة الثانية هي ضبط الصراعات الدينية والمذهبية في العالم العربي كي لا تضر بحقوق الأقليات الدينية والمذهبية، التي تهددها الأحزاب الإسلامية، وكذلك حفظ المصالح الأمريكية من هذا الصراع، أليس هذا المشهد مشابهاً لما حدث بعد هجمات 11 سبتمبر، ألسنا نعيش إحياء ذكراها هذا الأسبوع؟!!
وحتى يتخذ البيت الأبيض قراره بشأن مقتل السفير الأمريكي “البريء”، فإننا وفق المعطيات السابقة نحتاج إلى وقفة حقيقية لضبط الواقع الديني في الوطن العربي والعالم الإسلامي عامة، فهناك شعور حقيقي بالغبن والتهميش عند المسلمين، والعرب تحديداً، ووصل هذا الغبن إلى تلقي الإساءة إلى الدين مرات وكرات، وفي المقابل هناك عجز حكومي عن تحقيق طموحات الشعوب وعن الدفاع عن الدين الإسلامي والنبي محمد صلى الله عليه وسلم تجاه أي إساءة تصدر، وهناك، الأسوأ، خطاب ديني منفصل عن الواقع لا علاقة له بالعصر يُجَيّر كثيراً في خدمة الأطراف السياسية، يستمد معاييره من التراث ويستحضر التاريخ في كل مشكلة طارئة، ويركز في مفهومه لتطبيق الشريعة الإسلامية على تنفيذ الحدود وعقاب المسيء وإلزام الناس بتطبيق الأحكام الشرعية ومحاسبتهم عليها، ولا يلتفت لحقوق المسلم في العدالة والمساواة والكرامة الإنسانية، وحمايته من الظلم والتمييز، وتوفير احتياجاته وإغنائه عن الحاجة والعوز التي تلجئه إلى التطرف والجريمة والتمرد.
نحن نعيش واقعاً سياسياً واجتماعياً وثقافياً جديداً يحتاج لتطوير أدوات الثقافة الإسلامية والفقه الإسلامي، ليتمكنا من معالجة مشكلات العصر خارج أطر الخلافات التاريخية القديمة، وخارج المعايير والتفسيرات التقليدية التي جثمت طويلاً على صدور المسلمين، دون أن تتطور فظلت تنتج المشكلات ذاتها.
لقد آن الوقت لأن تنشط المراكز الإسلامية وحواضرها في بعث التجديد الديني الذي بشرنا به النبي محمد صلى الله عليه وسلم كل 100 عام، وآن الوقت لعلماء المسلمين وفقهائهم المجددين المصلحين أن تعلوا أصواتهم في سبيل التعبير عن جوهر الإسلام الصحيح الذي يلبي في مقاصده احتياجات المسلمين وتطورها وتغيرها من عصر لآخر ومن مكان لغيره.
ما حدث في ليبيا من قتل للسفير الأمريكي “البريء”، وما يجتاح العالم العربي، خاصة، والإسلامي عامة، من فوضى فكرية، وربط كل ذلك بأسباب واهية بالدين الحنيف وبالنبي الأمين لهو أكبر إساءة نقدمها لديننا الإسلامي، وما حدث كان دعاية ضخمة ومجانية للفيلم المسيء، وتحقيقاً لأهدافه بأقل تكلفة وبأسرع وقت.