انفرد العرب دون سواهم من الأمم الأخرى بذلك التمييز الواضح بين مفردي “قومي” و«وطني” في قاموسهم السياسي، ومس ذلك أيضاً مفهومي “الدولة” و«المواطنة”. فبينما تتطابق كل تلك التعابير عند الأمم الأخرى، فمن يتمتع بالجنسية الفرنسية على سبيل المثال يكون انتماؤه لدولتها ويكتسب قوميتها ويتمتع بحقوق مواطنيها وينطق بلغتها. الأمر مختلف في الكثير من جوانبه عندما نتحدث عن الفرد العربي، فهو قومي بلسانه وطني بحدوده السياسية مزدوج عند الوصول إلى مقارنة انتماءاته، حيث يبدأ الاختلاف بين ما هو قومي ووطني، الذي وصل في بعض الحالات إلى درجة التنافر السياسي واكتسب في حالات أخرى مستوى عالياً من التضارب في المصالح وأدى إلى شيء من التنافس.وقد تفتحت أعين الأجيال العربية من مواليد الأربعينات والخمسينات من القرن الماضي على الفكر القومي في مراحل شبابهم، فتشبعوا بقيمه وتتلمذوا على أيدي رواده من أمثال ساطع الحصري وزكي الأرسوزي وآخرين، وانخرطوا في صفوف تنظيماته من أحزاب مثل “حركة القوميين العرب” و«حزب البعث العربي الاشتراكي”. حتى أولئك ممن شدتهم الأفكار الأممية، فانتظموا في صفوف الحركات الشيوعية في مصر وسوريا على سبيل المثال لا الحصر، لم يكن بوسعهم أن يبتعدوا عن القضايا القومية فكانت في صلب المعارك التي يخوضونها. لم يخل الأمر من خلافات واختلافات عرفتها الحركة السياسية العربية بين تلك الفصائل السياسية الأممية والقومية التي امتدت إلى صفوف الفرق المختلفة في كل منها على حدة. فبقدر ما شاهدنا المناظرات بين قوى اليسار الأممي والأحزاب القومية لمسنا ذلك في صفوف الحركات السياسية القومية ذاتها. الملفت للنظر هنا أن الخلافات مهما بلغت حدتها لكنها كانت تضمن الإجماع على مركزية القضايا القومية المركزية مثل “فلسطين” و«الوحدة العربية” في النقاشات التي أفرزت تلك الخلافات. وكما رضعت تلك الأجيال حليب الفكر السياسي القومي انخرطت أيضاً في العمل السياسي من مداخله الفكرية القومية الرحبة لا الوطنية الضيقة. على النقيض من ذلك كان مواليد الستينات الذي سيطر على قيمهم ومن ثم سلوكهم الولاء الوطني، بعد أن تراجع من أمامه ذلك المد القومي ووجدنا موجة عاتية من التنظيرات لصالح ما هو وطني، اكتسبت عند البعض من كتبوا عندها مسحة من الابتعاد، وفي حالات منها، المعاداة لكل ما هو قومي، حتى عند تناول خطط اقتصادية تمس موضوعات التنمية، وتعالج المسائل الاجتماعية أو مناقشة قضايا قومية من مستوى القضية الفلسطينية.المؤلم في ذلك التحول أنه همش القضايا القومية التي لم يخفف منه سوى صعود مد الفكر السياسي الديني في منتصف الثمانينات، وعلى وجه الخصوص الإسلامي منه الذي حاول تأصيل بعض القضايا القومية مثل القضية الفلسطينية من منطلقات دينية جهادية. لكننا في المحصلة بتنا نلمس ذلك التقوقع الوطني على حساب الانفتاح القومي الذي تطور إلى ما هو أسوأ من ذلك، عندما بدأ الترويج لأمميات مشوهة على حساب القومية الأصيلة.بطبيعة الحال ليست الصدفة وحدها هي التي تقف وراء ذلك التراجع الذي يقترب من الانحراف، بقدر ما كانت تكمن وراءه مجموعة من الأسباب، البعض منها محلي صرف والآخر دولي متشعب يمكن رصد الأهم من بينها في النقاط التالية: 1. الهزيمة المشينة التي عرفتها بعض الدول القومية الكبرى في العام 1967، وهي مصر وسوريا، على يد أكبر عدو قومي هو الدولة العبرانية، في فترة معيارية قصيرة لم تتجاوز الأيام، إن لم نبالغ بعض الشيء فنقول الساعات إثر الضربة المفاجئة القاصمة التي تلقاها سلاح الجو المصري، الذي كانت طائراته جاثمة فوق مدرجاتها في العراء ومملوءة بالوقود الذي ساعد في الإسراع بتدميرها. لم تنحصر تلك الهزيمة في الإطار العسكري، بل مست وبعمق الجوانب الفكرية – السياسية وفي المقدمة منها المسألة القومية، التي تلقت طعنة شبه قاتلة في القلب أعيت كل محاولات إعادة الحياة لها. وفاقم من سلبيات ذلك الحملات الإعلامية الدولية المرافقة التي شارك فيها بوعي أو بدون بعض أجهزة الإعلام العربية، التي كانت حينها ترى في المد القومي عدواً مباشراً لها وخطراً قادماً يهدد وجود دولها.2. فشل الأنظمة القومية، سواء ذات الخلفية المدنية منها مثل سوريا والعراق أو المحض عسكرية مثل ليبيا، في تقديم النموذج الناجح الذي يمكن أن يحتذى به لكونها في الأساس نجحت في الوصول إلى السلطة من خلال حركة انقلابات عسكرية وليس عن طريق تنظيماتها السياسية. لم ينحصر الفشل في القضايا النظرية الفكرية ولا البرامج السياسية، بل تجاوزها جميعاً كي يصل أيضاً إلى الخطط التنموية الاقتصادية، وتزاوج كل ذلك مع مظاهر مفجعة من الفساد مست صلب الدولة القومية وانخرط فيها دونما أي رادع عناصر كانت تتبوأ مناصب قيادية في تلك الدول القومية. شوهت نلك الصورة البشعة للدولة القومية العربية، فكرة القومية العربية في أذهان الشباب العربي، وزرعت مكانها في نفوسهم نزعة سلبية، إن لم نقل معادية لكل ما هو قومي. رافق ذلك حملات أيضاً إعلامية مكثفة واعية روجت لمحاسن الوطني، على حساب كل ما هو قومي.3. انقضاض العولمة، على كل ما هو قومي، ورعايتها لكل ما هو وطني، فمثل تلك السياسة تساعدها على التخلص من منافسة كتلة كبيرة، وتبيح لها الاستفراد بتلك الصغيرة بمعايير دولية. وهكذا لمسنا خصوصاً بعد انهيار الاتحاد السوفيتي وبروز النظام الدولي الأحادي القطب، الذي أتاح للولايات المتحدة هامشاً واسعاً من التسلط على المستوى الكوني موجات هجومية من العواصم الغربية بقيادة واشنطن على المنطقة العربية، شجعت النزعات التقسيمية العربية وحاربت تلك القومية المناهضة لها. هنا شكل النفط كسلعة استراتيجية عالمية عامل هدم للتكتل القومي العربي وعنصر تشجيع للانزواء الوطني. ومهدت ثورة الاتصالات والمعلومات الطريق أمام هجوم العولمة الذي نتحدث عنه، واستطاعت أن تقيم روابط قوية بين القطري الوطني من جهة مع نظيره العالمي بعد أن هشمت، وبكل وعي وشراسة، كل الروابط القومية، وغذت بالمقابل النزعات الوطنية المرتبطة بشبكات قوية مع الاقتصاد المعولم.ليس المقصود هنا محاربة كل ما هو وطني البكاء على صدر القومية أو رثاء الفكر القومي. ففي ظل الظروف القائمة يصعب الحديث عن عودة لـ “الحالة القومية” التي وصفناها بالأدوات التقليدية القديمة، إذ يتطلب الأمر الولوج إلى الفضاء القومي من منطلقات مختلفة تتمتع بالمواصفات والمقاييس التي تضمن لها الانتصار على النزعات الوطنية المتضاربة معها، والوقوف بصلابة في وجه دعوات العولمة التي تتضارب مصالحها بشكل مباشر أو غير مباشر معها. ولضمان نجاح هذا التحول ينبغي له أن يسير بخطوات متناغمة مع كل ما هو وطني، لكنه غير مناهض لما هو قومي. وربما آن الأوان اليوم كي نعيد للفكر القومي مده بعد تراجعه غير المنطقي أمام مد النزعات الوطنية المعادية له.