يشكل موقع بلداننا في الشرق الأوسط نقطة ارتكازٍ جغرافي مغذية للشرق والغرب، وعلى الرغم من كون دول الشرق الأوسط تصنّف على أنها من الدول النامية، غير أنها بقيت مهمةً لمواقعها الاستراتيجية، وللثروات التي تختزنها بطون كثيرٍ من أراضيها، هذا مع أن بعض الدول لم تستثمر ثرواتها كما ينبغي. لهذا فقد بقيت هذه المنطقة محل اهتمامٍ وصراع بنفس الوقت، غير أن الشرق لم يحضر كما ينبغي في خضم صراع النفوذ في هذه المنطقة، وقد تأملتُ في هذه الفكرة وأنا أزور كوريا الجنوبية والتي تغيب عنا ثقافياً مع أن العراقة في العلاقات طويلة وقديمة، إذ مر على العلاقات السعودية-الكورية خمسين عاماً، مثلاً!
كوريا الجنوبية تجاوزت كثيراً المحن الأيديولوجية التي تعاني منها كوريا الشمالية، ولهذا فهي دولة هادئة لأنها منشغلة بالإنتاج والاقتصاد بدلاً من الأيدولوجيا والأفكار. رغم وحدة المكونات المجتمعية لدى الكوريتين (انفصلتا عام 1948)، إلا أن الجنوبية دولة ذات نسيج اجتماعي متسامح، ولا يشكل الخلاف الديني والصراع الإثني أي تحدٍ للمجتمع، إذ يدين الشعب الكوري بعدة ديانات منها: الشمانية وهي ديانة بدائية انتشرت في حياة الناس من خلال العادات والتقاليد اليومية، والبوذية وهي إحدى ديانات الفلسفة الفكرية وتؤمن بعملية تناسخ الأرواح، والكونفوشيوسية وهي ديانة غير سماوية مثل الديانة البوذية، والمسيحية- الكاثوليكية والبروتستانتية، وهي ديانة حديثة نسبياً لديهم، بالإضافة لديانة تشون دو كيو وهي ديانة وضعية بدأت في الستينات من القرن الثامن عشر كحركة اجتماعية ضد الفساد والتجاوزات الأجنبية في البلاد، خلافاً للإسلام الذي وفد إلى كوريا مع مسلمي شمال الصين في أوائل القرن العشرين وانتشر بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية. كما إن نصف الكوريين “لا دينيين”، أي لا يؤمنون بدين، هذا ما تطلعنا عليه الإحصائيات ونوافذ التعريف بهذا البلد العجيب.
يتمتع الكوريون بخلقٍ رفيع، ومما يذكره الراصدون عن أخلاقيات المجتمع فعلى الرغم من انتشار الانفتاح وتبدل العادات وتغير بعض المجالات الثقافية لديهم غير أنهم يحترمون بعضهم البعض بشكلٍ رفيع، على سبيل المثال لا ينادي الأصغر سناً من هو أكبر منه باسمه المجرد، بل يسبقه بألقاب الاحترام، حتى الأطفال لديهم هذه التراتبية في الاحترام، بل ويبقى اسم الإنسان مسبوقاً بلقب الاحترام حتى بعد وفاته ورحيله، وكانت هذه الجماعية وتقدير الأكبر عملياً أحد أسباب النهضة الاقتصادية، كما أكد لي السيد جنغ سيغ كوه، عضو اللجنة المؤسس في مكتب الملكية الفكرية الكوري.
ثمة قيمتان رئيستان لدى الإنسان الكوري بحسب السيد كوه، أحدهما التعليم، “فالآباء والأمهات يقتطعون معظم دخلهم لتوفير تعليم لائق بأبنائهم. ويبدو أن جيناتنا نحن الكوريين تنبض بالعلم، والقيمة الثانية هي العمل”. قال لي طالب سعودي تخرج قبل أسبوع من سيئول: هل تصدق أن الكوري إذا لم يجد عملاً تبرع للعمل في أي مكان تجاري مجاناً، لكنه لا يمكن أن يبقى فارغاً. البقاء بدون عمل يمكن أن يقتل الكوري”!
الدرس الذي تعلمته من زيارتي لكوريا الجنوبية أن هذه الأمة الكبيرة استطاعت أن تتجاوز أزماتٍ اقتصادية وسياسية واجتماعية، لتبقى تصارع على القمة إذ هي من أسرع الدول نمواً في العالم، وحين صعد اقتصادها في القرن العشرين أدهشت العالم، لكنها الآن تضرب مثلاً لا على المستوى الاقتصادي فحسب بل والاجتماعي والريادي، واستطاعت أن تذهل العالم بثقافتها حين استضافت مع اليابان كأس العالم 2002. هذه هي البلدان الحية إنها تعطيك السحر الذي تبحث عنه من كل النواحي، كوريا الجنوبية مشعة ولها مستقبل كبير وواعد. الفارق أنها لم تصنع واقعها المزدهر ومستقبلها المشرق، بالأيديولوجيا، ولا بالنوم والكسل، ولا استناداً إلى ثروات طبيعية، بل صنعته بالتخطيط والإصرار والكثير من العمل، والقليل من الكلام!