عندما أضرم الشاب التونسي محمد البوعزيزي النار في نفسه في 19 أكتوبر 2010 لم يكن يتوقع أنها ستكون الشرارة التي ستشعل نار ماعرف حينها بـ “ثورة الياسمين” في تونس، وأنها ستمتد كي تشعل في 25 يناير 2011 ما وصف بـ “ثورة النيل” في مصر، ثم تواصل مسيرتها فتطال ألسنتها بلداناً عربية أخرى من ليبيا شمالاً حتى اليمن جنوباً، وتكتسب اسماً، بغض النظر عن مدى الاتفاق على دقته، لكنه أصبح لصيقاً بها وهو “الربيع العربي”. أثار ذلك “الربيع” اهتمام الكثيرين ممن يتابعون الأوضاع في الشرق الأوسط عموماً والمنطقة العربية خصوصاً، وتفاوتت الرؤى واختلفت التشخيصات من قبل أولئك الذين تناولوا هذه الظاهرة، وتباينت بين الإسقاطات الذاتية المسطحة إلى تلك العلمية الموضوعية المعمقة، وكان من بينها تلك التي تميزت بالتفرد في فهم الأسباب والدوافع التي أدت إلى ما أصبح يعرف اليوم باسم “الربيع العربي”.
فكاتب من مستوى المحلل في صحيفة نيويرك تايمز الأمريكية توماس فريدمان انفرد برؤيته المنطلقة التي ترى أن السبب الرئيس وراء ذلك “ الربيع”، إنما تعود حسب رأيه إلى “توقف الناس عن الشعور بالخوف تجاه زعمائهم (وأصبحت القوى الاجتماعية الفاعلة عوضاً عن ذلك) تخشى بعضها البعض، فالقبائل لا تزال تخاف من القبائل الأخرى فى ليبيا واليمن، والطوائف تخشى بعضها البعض فى سوريا، والعلمانيون والمسيحيون يخشون الإسلاميين فى مصر وتونس، (منوهاً إلى أن إزالة هذا الخوف) يتطلب اعتناق ثقافة التعددية والمواطنة”.
أما المحلل الأكاديمي ويبستر تاربلي، فيوحي في مقالــه الموســــوم بـ (المخابرات المركزية الأمريكية تتخلص من مبارك لأنه رفض الحرب علي إيران)، أن هناك أيدياً أمريكية لعبت في الخفاء، وأنها تضع من لا يقف مع مشروعاتها في المنطقة، في جبهة الأعداء الذين ينبغي التخلص منهم.
ويشارك تاربلي رأيه في دور الولايات المتحدة في ذلك “الربيع”، العديد من الذين تناولوا تلك الظاهرة، معتمدين على وثائق سربها موقع ويكليكس، وورد فيها “ أن الولايات المتحدة دفعت عشرات ملايين الدولارات إلى منظمات تدعو إلى الديمقراطية في مصر. وحسب الوثيقة السرية التي سربها الموقع والمصادرة عن السفارة الأمريكية في القاهرة في 6 ديسمبر 2007، فإن الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية “يوآس آيد” خصصت مبلغ 5.66 مليون دولار عام 2008، و75 مليون دولار في عام 2009 لبرامج مصرية لنشر الديمقراطية والحكم الجيد”.
على خلاف من ذلك وجدنا كتاباً عرباً من أمثال بسام العوران، تناولوا الموضوع من زاويته الاجتماعية الخالصة، مشيراً إلى أن “الشعوب العربية أثبتت أنها قادرة على التغيير كما حصل في تونس ومصر وليبيا واليمن، وذلك بإسقاط الأنظمة فيها التي كانت تمارس القمع لشعوبها. واستطاعت الشعوب العربية في هذه الدول أن تكسر حاجز الخوف بهمة الشباب العربي الذي تواصل وتقارب مع بعضه البعض أكثر من أي وقت مضى طلباً للحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية من خلال التقاء الحوافز الاجتماعية والاقتصادية مع الحوافز الوطنية والإنسانية والقومية”.هنا يتوقف الكاتب اجتماعياً عند الشباب العرب، ويعتبر، بشكل مباشر أو غير مباشر، أنهم شكلوا الوقود الأساس الذي أشعل نيران “الربيع العربي”، وواصل حمل شعلتها، كي تنتشر في أكثر من بلد عربي.
مقابل ذلك السبب الأحادي، نقرأ لكتاب من أمثال سلمان محمد البحيري، الذي ذهب إلى ما هو أبعد من ذلك، حيث يرى مجموعة متداخلة من العوامل، قادت إلى ذلك “الربيع”، تتمحور حول “المعاناة الطويلة من الفقر والحرمان والقهر وكذلك لرؤية هذه الشعوب انتشار الفساد وأن المنتفع من موارد الدولة هو الرئيس وأقاربه ولكن هذه الشعوب لاتلمس أي تحسن على معيشتها ولا تستطيع أن تعيش بكرامتها”.
لكن من بين الدراسات المعمقة التي حاولت قراءة الظاهرة من زواياها المتعددة المتكاملة هي تلك التي قام بإعدادها مهدي أبوبكر حمة علي، وحملت العنوان “الشرق الأوسط والربيع العربي: آفاق ومستقبل”، ونشرها موقع الحوار المتمدن والتي تشخص “الأحداث والاحتجاجات التي حدثت وتحدث في العالم العربي وبات مايعرف بالربيع العربي، يمكن أن نصفها بالبداية لمنعطف سياسي جديد الذي ستشهدها المنطقة في الأعوام القريبة. هذه الأحداث لا تجري دون مسوغات اجتماعية و سياسية واقتصادية داخلياً و خارجياً لاتجري بمعزل عن بعضها البعض بل هناك تأثيرات كل منها على آخر علاوة على بعض التأثيرات الخارجية الجانبية التي لها دور على مجريات الأحداث... وهناك سبب آخر الذي أثرت على عدم استقرار الشرق الأوسط ألا وهي الدين، فالغالبية سكان المنطقة تدين بالدين الإسلامي، والإسلام كأحد محددات دول المنطقة في علاقاتها مع الآخرين له آثر كبير في تضخيم مشاكل المنطقة وخاصة في مسألة الصراع العربي الإسرائيلي”.
تجدر الإشارة هنا إلى ذلك المسح لاستطلاع للرأي قام به موقع “غوغل”، تساءل فيه “ما هي برأيك أهم أسباب الربيع العربي وقيام الثورات والانتفاضات الشعبية في بعض الدول العربية؟ وجاءت النتائج على النحو التالي:
3 10.5 % عدم تطبيق الديمقراطية وتبادل السلطة سلمياً
10.53 % الظلم والقمع والقهر والاضطهاد من قبل الحكام
15.79 % الفقر والبطالة والغلاء والركود الاقتصادي
5.26 % طيلة بقاء الروساء في الحكم وعدم تحديد فترة الرئاسة
15.79 % الفساد المالي والإداري والقضائي في الدولة
5.26 % عدم تطبيق سيادة القوانين على الجميع
10.53 % إعطاء الشعوب حقوقها التي كفلتها لها القوانين
10.53 % كراهية الشعوب لحكامها بسبب عمالتهم للغرب
10.53 % رغبة بعض الأحزاب وقياداتها في السلطة
5.26 % أيادٍ خارجية تسعى لنشر الفوضى والاضطراب فيها
بطبيعة الحال لا تعكس هذه النسب أرقاماً دقيقة يمكن أن نقيس في ضوئها الرأي العام العربي تجاه ظاهرة “الربيع”، لكنها يمكن أن تؤخذ بمثابة المؤشر العام الذي يعبر، بشكل أو بآخر عن الاتجاه الرئيس الذي يحكم الرأي العام العربي في تقييمه لها، ودرجة تفاعله معها، والذي يعتبر أن ما جرى هو حصيلة تفاعل العوامل الداخلية بشكل أساس، مع أخرى خارجية، ساهمت في إذكاء نيران تلك الأحداث، وتاجيجها.
قراءة أولية لتك النماذج التي تناولت هذه الظاهرة، باحثة عن أسبابها الذاتية والموضوعية، ودوافعها التي تفاعلت مع بعضها البعض على الصعيدين الداخلي والخارجي، تكفي لكي تبرز أمام ناظري المتابع لتطوراتها، أنها جاءت بفضل عاملين أساسيين متكاملين، ينطلق الأول من عناصر داخلية محضة. أما الثاني فهو خارجي في الأساس، وكان للمصالح الأجنبية، دورها الذي من الخطأ الاستهانة به، في تحريك الدول ذات المصلحة في تشجيع حدوث تغيير في المنطقة العربية، يمكن أن يصب في نهاية الأمر في ترجيح كفة عوامل حماية تلك المصالح.