تلك كانت مقدمة مقتضبة لا بد منها من أجل الحديث بشكل مباشر عن الأسباب التي أشعلت نيران ذلك الربيع، وفي أكثر من بلد عربي، وأضفت على كل واحد نسخة من تلك البلدان نكهتها الخاصة الناجمة عن بعض الاختلافات الثانوية الهامشية التي تتميز بها كل دولة عربية عن الأخرى.
أول تلك الأسباب ذو طابع اجتماعي، ويعود إلى فسيفساء التركيبة الاجتماعية التي يختزنها المجتمع العربي، فعلى المستوى الإثني، هناك العربي، والفارسي، والأرمني، وحتى الآشوري، إلى جانب البربري، والكردي، وعلى الصعيد الديني، هناك المسلم، جنباً إلى جنب مع المسيحي، وبينهما اليهودي، ناهيك عن تلك الأقلية التي تدين ببعض الأديان القديمة، وفي نطاق الدين الواحد، نجد بين المسلمين، السني والشيعي، والدرزي، والأباضي، وبين صفوف المسيحيين، هناك الأرثودكسي، سوياً مع الماروني، إلى جانب الكاثوليك. هذا التنوع الاجتماعي الغني. وفي ثنايا ذلك التنوع، لا بد من الإشارة إلى الانتماءات القبلية، ومعها تبرز أيضاً التمايزات المناطقية. هذا التنوع المتعدد الأبعاد، هو بمثابة النصل ذي الحدين، فمن جانب يشكل ثروة اجتماعية غنية تساعد، في حال تناغمها، على بناء مجتمع تتعايش فيه هذه الانتماءات بشكل سلمي، كي تشكل في نهاية المطاف، ما يشبه باقة الورد التي تتعدد ألوانها، لكنها متناغمة فتبدو كلوحة رسمتها ريشة فنان موهوب. بالمقابل، وحين ما تتنافر تلك المكونات، تشكل خميرة جاهزة لاحتضان أسوأ أنواع الجراثيم والبكتيريا التي من شأنها زرع أنواع مختلفة من الشقاقات التي تمزق نسيج المجتمع، وتحول دون وحدته، فتفقد الصورة كل معالم جمالياتها، وتتحول إلى كتلة لونية ممسوخة. يفرز ذلك تناحرات حادة شهدنا الكثير منها قبل وأثناء وبعد هبوب رياح “ الربيع العربي”. يزداد الأمر سوءاً عندما تحسن القوى الخارجية، وخاصة تلك التي لها مصلحة في التسللل، وإحكام قبضتها على مقدرات المنطقة، فتستغل تلك الخلافات، وتعمل على تغذية عناصرها، فتشعل نيران الصراعات فيما بين مكونات المجتمع العربي، مستفيدة من قدرتها على تحويل ذلك التنوع المفترض فيه التناغم، إلى آخر تفتك به أمراض التناحر، وهو أمر لمسناه خلال النصف القرن الماضي من تاريخ المنطقة في دول عربة مثل لبنان، ومصر والسودان، حتى قبل هبوب رياح “الربيع العربي”، ولم تنج منه محاولات إبعاد “الربيع العربي” عن الجوانب السلبية المصاحبة لتلك التنوعات، والتي أطلت بوجهها القبيح، وبشكل ملموس، في اليمن، ومن بعدها ليبيا.
ثاني تلك الأسباب يستمد قوته من جذوره السياسية، فقد قسمت اتفاقيات دولية مثل سايكس - بيكو إلى دول عربية مشوهة على الصعد السياسية والاقتصادية، مما خلق مجتمعات غير طبيعية تنتمي لتلك الدول. سوت تلك التقسيمات الحدودية المشوهة تربة الصراعات التي نشبت بين تلك الدول، وانعكست داخلية في كل واحدة منها على حدة. وتنامت الصراعات الحدودية التي غذتها تلك التقسيمات القسرية غير الطبيعية، بدلاً من أن تنميها علاقت الجوار والتكامل الحضاري والديني. من هنا جاءت الحروب بين الدول المغاربية، والصدامات والتجزئة السودانية، والغزو العراقي للكويت، كلها كإفرازات طبيعية لسياسات التقسيم القسرية التي فرضتها الدول العظمى، المنتصرة في المراحل التي أعقبت الحربين الكونيتين الأولى والثانية، على المنطقة العربية. يضاف إلى كل ذلك زرع الكيان الصهيوني في قلب المنطقة العربية، والدور الذي مارسه في تغذية النزاعات الداخلية، ولبنان هي المثال الأكثر سطوعاً للتدليل على ذلك الدور القذر الذي مارسه ذلك الكيان. هذه الاختلافات نجحت في تزويد القوى الخارجية بأسلحة ماضية استخدمتها تلك القوى بمهارة فائقة، لخدمة مصالحها الذاتية. ولعل ما يجري في سوريا اليوم، هو دليل قوي على دور تلك الدول في حرف مسيرة “الربيع العربي”، لما يحقق أهدافها البعيدة عن الأسباب الداخلية الحقيقية التي أشعلت نيران ذلك “الربيع”.
أما ثالث تلك الأسباب فهو ذو بعد استراتيجي جغرافي، مصدر الموقع الجغرافي المهم في بعده السياسي الذي من الله به على هذه المنطقة، فالبلاد العربية تحتل موقعاً جغرافياً حساساً في العلاقات الدولية، ومن ثم فمن الطبيعي أن تدس الدول الخارجية أنوفها كي يكون لها بصمتها على سير الأوضاع في المنطقة، وتطوراتها. وبالتالي فمن شبه المستحيل أن تقف تلك القوى الخارجية مكتوفة الأيدي كي تترك الأمور في المنطقة العربية تأخذ منحى لا يخدم مصالحها، أو يسير في إتجاه مناقض لاستراتيجياتها العالمية. هذا ما لمسناه في استمتاتة الدول العظمى في تجيير الصراع لصالحها، حتى وإن كان ذلك التجيير على حساب مصالح المواطن في تلك البلدان التي هبيت عليها رياح ذلك “الربيع”.
يقودنا ذلك إلى آخر الأسباب، لكنه ربما يكون الأكثر حضوراً منها في سياق تشخيصنا، وهو السبب الاقتصادي، وعلى وجه التحديد الثروة النفطية، حيث لايزال النفط يشكل أهم سلعة استراتيجية دولية، تعتمد عليه اقتصادات الدول العظمى، في تأمين احتياجاتها من مصادر الطاقة، التي تسير عجلة الصناعة، ومن ثم تمد إقتصادها بعناصر الحيوية التي لا يستطيع الاستغناء عنها في الحاضر، بل وحتى في المستقبل المنظور.من هنا، ولتأمين احتياجاتها النفطية، لم تتردد الدول العظمى، في بذل قصارى جهدها، كي لا تمس نتائج الربيع، تأمين متطلبات سوقها الداخلية من تلك السلعة الاستراتيجية.
كل ذلك، يؤكد، أن هناك تداخل وتشابك بين العوالم الداخلية التي أدت إلى هبوب رياح الربيع العربي، والتي تناولتها العديد من المعالجات، مثل تفشي الفساد في مؤسات الدولة،، وغياب الديمقراطية، ومصادرة حق المواطن في التمتع بحقوقه التي تبيحها له قوانين المجتمعات المتحضرة التي تحترم حقوق المواطنة، بمفهومها المعاصر، مع تلك القوى الخارجية التي باتت مصالحها مهددة، مالم تشهد المنطقة بعض التغييرات التي من شأنها”عصرنة” المجتمعات العربية، ومدها بشحنات، حتى وإن كانت طفيفة، لكنها توفر نسبة لا بأس بها من مقومات الشفافية التي باتت مقوماً مهماً من مقومات المجتمعات المتمدنة، بالمعنى السياسي لكلمة التمدن.
تجدر الإشارة هنا إلى ضرورة التأكيد، ولكي لا نشوه صورة “الربيع العربي”، على أن هناك حاجة ماسة للتغيير، هي التي تقف في أعلى قائمة الأسباب التي قادت إلى اشتعال نيرانه، ومن ثم فمن الخطأ تصور أن العوامل الخارجية هي وحدها التي كانت الأساس. إنما وبالقدر ذاته، ينبغي رؤية ذلك الحضور الخارجي، كي تكتمل الصورة، ويكون تشخيص الأسباب علمياً.
تأسيساً على كل ذلك، ربما آن الأوان كي تقف القوى التي قادت “الربيع العربي”، كي تضع الفواصل المطلوبة بين ما هو محلي وداخلي، وذلك الدولي والخارجي، وتخرج، في ضوء تلك المعالجة، بالمعادلة الصحيحة التي تقلب المعادلة القائمة، فتجير العنصر الخارجي لخدمة الداخلي، والذي هو الأهم