قبل أشهر تابعنا الاعتذار الذي قدمته وكالة الأنباء الأميركية “أسوشييتد برس” (إيه بي) للصحافي الراحل إدوارد كينيدي، الذي كانت قد طردته من وظيفته لأنه خرق حظراً عسكرياً؛ إذ كشف قبل الموعد نبأ استسلام ألمانيا ونهاية الحرب العالمية الثانية عام 1945، تفاصيل الحادثة تقول إن الصحافي إدوارد كينيدي كان ضمن مجموعة من 17 صحافياً موجودون لتغطية الاجتماع الذي وقّعت خلاله القوات الألمانية على اتفاقية استسلامها، وطلب من الصحافيين عدم الإفصاح عن المعلومة لبضع ساعات ثم لمدة 36 ساعة، فلم يمتثل كينيدي لهذه الأوامر ونقل الخبر إلى مكتب (إيه بي) في لندن الذي نشره بعد بضع دقائق، لعله أراد سبقاً صحفياً، أو قدر أن العالم بحاجة لمعرفة أن الحرب انتهت، توفي إدوارد عام 1963 لكن ابنته جوليا قالت عن الاعتذارات: “كانت في رأيي تعني الكثير بالنسبة إليه”.فالاعتذار قد يكون كافياً أحياناً مع وسام في حالة كينيدي ربما، لكنه أيضاً قد لا يكون كافياً في أحيان أخرى، خصوصاً إذا ما بدر الخطأ من مؤسسة إعلامية كبيرة وذات مصداقية مفترضة وتأثير واسع وتعلق بمصير دولة وشعب بأكمله. أتحدث هنا تحديداً عن ذلك الاعتراف الخجول من قبل مجلس أمناء “بي بي سي” في تقريرها الرابع تحت عنوان (الحياد والدقة في التغطية الإعلامية) (أن تغطية قناة البي بي سي للأحداث في البحرين لم تنجح في إدراك تعقيدات الأحداث وأبعادها الطائفية، كما أنها لم تركز بما يكفي على إبراز آراء ودوافع الأطراف المؤيدة للحكومة).هذه التغطية المجحفة كانت مصدر قلق وضغط كبيرين على حكومة البحرين وعلى الغالبية الرافضة لتلك الأحداث التي شهدها العام 2011، وإذ كنا حينها لا نستغرب أن يأتي ذلك الهجوم الممنهج والعدائي من قنوات هي دون أدنى شك جزء من المخطط الذي استهدف البحرين كالعالم والمنار وغيرها من القنوات الفاقدة للمصداقية الإعلامية من الأساس، والتي لن يتأثر بها إلا نفر من الذين سيصدقونها حتى لو قالت إن الأول من رمضان هذا العام سيحل في منتصف شعبان!! لكن الوضع مع قناة بحجم البي بي سي مختلف تماماً، وكنا نشاهد يوميا، تغطيتها غير المنصفة لما جرى في البحرين سواء من خلال نقلها للأحداث أو إبرازها لوجهة نظر واحدة تقريباً دون غيرها.آنذاك كان يمكن لأي متابع -ليس بالضرورة متخصص في مجال الإعلام- أن يدرك أن التغطية منحازة، بل ويمكن وصفها بالمتآمرة نظراً لخطورة الموقف وللظروف المحيطة إقليمياً من انتشار رقعة (الصقيع العربي) وما شهده من ثورات واستعداد الرأي العام العالمي لتصديق أن هذه الثورات من الممكن أن تصل لبلد عربي آخر، وهو ما وعاه مفجرو الأزمة في البحرين وسعوا لاستغلاله وتوظيفه إعلامياً، ولا نستطيع أن نتصور أن مؤسسة عريقة بحجم البي بي سي كانت في غفلة عنه!! فهل يكفي أن تخرج علينا فقط بمثل هذا الاعتراف؟!بالطبع لا؛ فاليوم هي تعترف أن تغطيتها اتسمت بعدم التوازن وأن الطريقة التي تعاملت بها حكومة مملكة البحرين تختلف عن الأساليب الوحشية التي تعامل بها القذافي وبشار الأسد، حيث أن التقرير أكد (أن حكومة البحرين بذلت كل جهدها، خاصة في الفترة ما بين 19 فبراير و14 مارس من أجل نزع فتيل الأزمة واتخذت سلسلة من الإجراءات الرامية إلى تهدئة الأوضاع، وأن ولي العهد دعا إلى فتح باب الحوار مع كل الأطياف السياسية، وأن الأجهزة الأمنية خلال تلك الفترة تحلت بدرجة كبيرة من ضبط النفس) فهل تكفي كل هذه الاعترافات؟!قطعا لا؛ إذ مر عليها الآن أكثر من شهر، وكان يفترض على البي بي سي أن تبرز الحقيقة المنصفة لما جرى في البحرين وأن تخصص لذلك من التغطيات الإعلامية والبرامج الحوارية واستضافة من هم مع الحق البحريني، تماماً كما فعلت إبان الأزمة بما أساء للبحرين وشوه صورتها أمام الملايين ممن يعتقدون في هذه القناة الحياد والمصداقية، فالأمر ليس ببدعة، بل هو عرف إعلامي متبع بأن يتم تصحيح الخطأ بنفس حجم ومكان وظروف نشره لو كان صحفياً، ومن المفترض بنفس كثافته وإبرازه وتكراره لو كان إعلامياً من خلال البرامج والنشرات والتقارير والرسائل وما إلى ذلك. كما ننتظر من الدولة وبعد مرور شهر الآن أن تضغط على البي بي سي وتمارس كل صلاحياتها التي تتيحها لها المواثيق والقوانين والأعراف الدولية والإعلامية والدبلوماسية فتدفعها لأن تتبع ذلك الاعتراف بعمل إعلامي صريح وواضح ينصف البحرين ونظامها وغالبيتها التي ظلمتها تلك التغطية المنحازة وجعلتها تبيت ليالي عديدة من القهر وقلة الحليلة، وهو دور ننتظره من الدبلوماسية البحرينية الخارجية والقائمين على الإعلام، وأعتقد أنه حق مكفول من غير الصحيح التنازل عنه، ولا يحتاج سوى لشيء من الرؤية والتحركات الجادة، بل ولأقل بكثير من تلك التحركات التي تجوب بها المعارضة الدنيا لتشويه سمعة البحرين.. فهل سنرى ذلك؟! ربما.