لا أحب أن أنظر إلى المستقبل، فلا شيء هناك أو في الأفق ما يرسم ملامح البُشرى، فكل ما نراه أمامنا يبدو بداية لحطامٍ قادم.
لا تهمني السياسة بقدر ما يهمنا المجتمع، فالسياسة سَتَكْنس كل من يحاول أن يضع نفسه فداءَ أجندته، فهي وأصحابها كالزبد يذهب جفاء، أما ما ينفع الناس فإنه سيمكث في الأرض لا محالة.
المجتمع هو النواة الحقيقية للبقاء والامتداد، وهو الثابت الذي يكون وجوده بالثابت الأول (الوطن)، وفي حال انهدت وتقوضتْ دعائم أحدهما، فإن كل شيء سينهار عاجلاً أم آجلاً، وهذه المعادلة من أهم سنن التاريخ والحياة، فنحن لا نستطيع أن نغير سنة الله في الوجود.
أصبحنا لا نحب الحاضر، أما المستقبل فإنه أكثر ما يمكن أن نكرهه، ولهذا ورغم تحفظنا على استحضار الماضي والتغني بالتاريخ، إلا أنه أصبح اليوم أكثر سكينة عن غيره، فصار الملجأ الآمن لكل ما هو طائش، كما إنه أكثر وقاراً من حاضر لا يعرف كيف يسير بهدي النور وضياء العقل.
اليوم، كل شيء بدا منفلتاً في وطني، نبحث عن رشيد أو عاقل أو حكيم، وإن وجدنا من هؤلاء الثلاثة أحدهم، فإنه يخاف أن يتكلم خشية الأذى المحتوم من مجانين الوطن، ومن هنا فضل العقلاء ترك رسالتهم خوفاً من أن يتحدثوا فلا يُسمعوا، أو أن ينصحوا فلا يتبعوا، بالرغم من علمهم أن في الصمت عن قول الحق منقصة في العقل والدين، لكن ما حيلتهم مع مجتمع يريد أن يعيش (صماً بكماً عمياً) في هذه المرحلة؟!!.
في داخلنا، نُوْسِم من يلجأ إلى التاريخ بالمتخلف، لكننا حين نلامس الواقع بأنيابه الشرسة فإننا نمارس تخلفنا باحتراف مُتقن، فنلجأ إلى الماضي مضطرين، لأننا نراه أكثر أمناً من الحاضر فضلاً عن شرور المستقبل وآفاته.
أحيان كثيرة نحاول أن نقنع أنفسنا بالتاريخ، فنسبغ عليه من المديح ما لا يستحقه، فننعته بالمدرس والمعلم والملهم، لأن فيه من العبر والدروس الكثير، ومنه تُستلهم البطولات والأمجاد، متناسين أن في التاريخ من السوءات لو جمعنا كل أوراق شجر الدنيا لما غطت عوراته وسوءاته، لكنه الخِدْر اللذيذ الذي يصاحبنا عند الهزيمة، حين عدم قدرتنا على مواجهة الواقع.
بكل تأكيد، ليس كل التاريخ مزبلة، كما ليس كل الحاضر مهزلة، فرهاننا يقع بين الحَسَنَين منهما، نراهن على تاريخ الوطن المشرف، ضد الطائفية والمذهبية والجنون، كما نراهن في ذات الوقت على بضع من عقلاء لا ينامون إلا وأيديهم على قلوبهم خشية ضياع الوطن، لكنهم يحتاجون لمزيد من جرعات الشجاعة، مضافة إليها عدم تعرضهم لأذى “المهاوشين” من ضباع المجتمع.
أجمل ما في تاريخ البحرين، العوائل المختلطة، والمناسبات المشتركة، والوحدة المُنجزة، والذكاء البحريني الذي يُدرس في مدارس المجتمعات الإنسانية التي تتطلع نحو الرقي. هذا ما نفقده وما نحبه وما نحنّ إليه في التاريخ، وما سواه من الأمور، يبقى كلاماً من الهذيان الكريه، أما المستقبل فهو ما أكثر ما نخشاه.
إلهي، احفظ وطني.. ليس لنا غير هذا الدعاء.