«كارثة حقيقية”.. هذا ما حصل في السوق الشعبي ولا أملك مفردة أقل وطأة من وصف ما حدث بغير الكارثة، فأكثر من 60% من السوق قد دُمر، وما يقارب من 500 محل قد احترق، أي إن أكثر من ألف عائلة ربما تكون قد فقدت مصدر رزقها، تراث من القصص والموروث الشعبي والذاكرة البحرينية قد تضرر بفعل الحريق، لكن،.. ورغم امتداد أعمدة الدخان على مساحة البحرين كاملة تقريباً، إلا أن الحريق مر على الجمعيات السياسية وعلى السياسيين عامة بارداً فاتراً على غير ما يفترض أن يكون. يزعم كثير من السياسيين وكثير من الجمعيات السياسية أنهم في حراكهم (العنيف) يطالبون بمشاركة أوسع في العمل السياسي ويريدون فرصة للمشاركة في إدارة البلد، لكن تعاملهم مع مسألة حريق السوق الشعبي أثبتت أنهم ينقسمون بين طرفين: طرف يطالب بنصيب أوسع في تقاسم المناصب الحكومية، وطرف آخر يتصرف بردة فعل تجاه الأطراف الأخرى، فلا أظن أني قرأت بياناً لجمعية سياسية يتعلق بوجهة نظرها تجاه الحريق، ولا أظن أن شخصية سياسية انبرت لمتابعة الموضوع، تمشياً مع شعارات المشاركة السياسية والدفاع عن حقوق المواطنين. كان من المفترض من المهتمين بالشأن السياسي البحريني والعاملين فيه من الشخصيات والجمعيات تشكيل لجان لمتابعة موضوع حريق السوق الشعبي، توكَد لهذه اللجان مهمة الجلوس مع التجار والباعة المتضررين من الحريق والاستماع لشكواهم المتكررة من رداءة الخدمات في السوق وافتقاده لإجراءات السلامة، والتنسيق مع هؤلاء التجار والباعة في لجان مشتركة لمتابعة إجراءات الحكومة الخاصة بالتعويضات وإعادة إعمار السوق، كان يفترض من الجمعيات السياسية ومن الكتل البرلمانية تشكيل لجان تحقيق تتابع مع وزارة الداخلية أسباب نشوب الحريق، وتُحقق في قصور إمكانات أجهزة الأمن عن استدراك حريق هائل بهذا الحجم في بلد يلعب فيه الأطفال كل يوم بزجاجات المولوتوف، وفي ظرف اكتشفت فيه الأجهزة الأمنية ترسانة من المتفجرات مخبأة بين المنازل. لقد استبق الجميع سمو رئيس الوزراء بإعطائه توجيهات بتقديم تعويضات للتجار وبإعادة إعمار السوق على نفقة الحكومة، وبذلك نفى سمو رئيس الوزراء كل إشاعة صدرت عن افتعال الحريق لتسليم السوق لمستثمر محلي أو أجنبي، لكن ما بين إصدار سمور رئيس الوزراء لتوجيهاته وبين تنفيذها مساحة من البيروقراطية وتراخي المسؤولين وتأخر الإجراءات وعجز في الميزانية و...، وهنا يبرز دور الجمعيات السياسية والكتل البرلمانية في متابعة تنفيذ الحكومة لتوجيهات سمو رئيس الوزراء ومراقبة أدائها في جودة التنفيذ وسرعته، وهذا ما يبدو أن أحداً لم يلتفت إليه ولم يهتم به لأن مصلحة سريعة ما لن يجنيها طرف سياسي من هذه القضية!! يبدو أن مفهوم العمل السياسي غير واضح في ذهن العديد من الجمعيات السياسية، فالمشاركة السياسية تتأسس أولاً على المبادرات الشعبية في معالجة أزمات المواطنين والانحياز لقضايا الناس وهمومهم والعمل على حلها فعلياً وليس المتاجرة بها في الفعاليات الشعبية وأروقة جمعيات حقوق الإنسان، العمل السياسي يقوم على برامج ومشاريع برؤى واضحة وخطوات قابلة للتحقق وللتقييم وليس على شعارات إنشائية فضفاضة تُغرر بها عقول بسطاء الناس، إن حشد الأنصار حشداً سوياً يتجاوز الطائفية والفئوية ويقوم على التفافهم حول مشكلاتهم اليومية والمصيرية، وليس على استخدامهم ككتل تسد الشوارع وتعطل مصالح الآخرين لحصد مكاسب سياسية ذاتية. لم نسمع صوت الوفاق وتوابعها من الجمعيات، ولم نلمس عنفها ورعونتها المعهودة في الحديث عن حريق السوق الشعبي، لم تبادر، كعادتها، في استضافة الضحايا والمتضررين في ندوات تبث عبر الإنترنت، ولم تحضّر لمسيرة خاصة في مدينة عيسى تضامناً مع أصحاب المحال المحترقة، بل استمرت في شعاراتها العامة والدعوة لمسيراتها الاحتجاجية ذاتها، وسكت كل وكلاء حقوق الإنسان من الأغنياء والميسورين الذين تاجروا بقصص الفقر والبطالة في فنادق جنيف الراقية وفي قاعات الكونجرس، وكذلك لم نسمع صوتاً لتجمع الوحدة الوطنية أو المنبر والأصالة وصحوة الفاتح وغيرهم من الجمعيات الفاتحية التي تزعم أنها تأسست، هي الأخرى، لخدمة المواطنين ومتابعة احتياجاتهم!! مياه السياسة في البحرين راكدة لكن شوارعها تحترق بالإطارات وبالمولوتوف وتضج بالمسيرات الاحتجاجات، وهذا دليل على أن الحراك فوضوي وتخريبي بالدرجة الأولى ولا علاقة له بحقوق المواطنين وبهمومهم وباحتياجاتهم، وهذا سقوط آخر لمن نصبوا أنفسهم ممثلين لإرادة الشعب، ومن ارتدوا نظارات الفهم والوعي الذي يزعمون أن أكثر من نصف الشعب البحريني لا يملكه. قضية حريق السوق الشعبي أحد الملفات السياسية التي تنتظر مَن مِن الجمعيات السياسية أو الكتل النيابية سينبري لتبنيه والدفاع عن حقوق التجار المتضررين ومتابعة أداء الحكومة في إعادة الإعمار والتعويضات، وهذا هو العمل السياسي الصحيح، وهذا هو العمل على خدمة مصالح المواطنين والدفاع عنها، وهذا نموذج للمبادرات الشعبية التي تؤسس لالتفاف شعبي سويّ وتؤهل الراغبين في المشاركة السياسية من بناء رصيد جماهيري حقيقي ونيل ثقة الشعب كله دون تمييز.