لكل تطور معماري ضريبته الخاصة، وكلما زاد حجم التطور زادت كلفته من الناحية المعاكسة وازداد حجم آلام ضريبته، الضريبة في شكلها العام يدفع فاتورتها البشر، وفي أحيان كثيرة يدفع جزءاً منها الحجر والشجر وكل شيء، لأن التطور المدني في عمومه، مهما بلغ من علوه واتساعه، يظل يبحث في إرضاء رغبات المنتفعين منه والمتسلقين القلائل من أبناء البشر.
نحن وفي هذا العصر المادي البحت ندفع كثيراً من صحتنا ونفسيتنا وأنفسنا ووقتنا في سبيل الحصول على بعض الرغبات المؤقتة، لهذا فإننا أيضاً وفي كثير من الأحيان نسرف في اللحظة الحاضرة، حتى ولو كان كل ذلك على حساب مصلحة الأجيال القادمة.
إن احتياطي الأجيال ليس بتوفير المال والقليل من إيرادات النفط فقط؛ فهذا الأمر سيعود لهم بكل تأكيد شئنا ذلك أم أبينا، لأننا لن نخلَّد في هذه الحياة، لكن حين نتحدث عن أهم ما في احتياط الأجيال القادمة، فإننا نتحدث عن الحفاظ على الأرض التي نسكنها، والحفاظ على الهواء والماء وكل ما يمكن أن يساهم في الحفاظ على البيئة.
نحن كالأطفال المشاغبين؛ أولئك الذين يستخدمون الأدوات العامة في الأماكن العامة ومن ثم يقومون بتخريبها بطريقة عبثية قبل أن يغادروها، حتى لا يستطيع غيرهم من استخدامها بعد خروجهم من ذلك المكان.
إنسان اليوم لوَّث الهواء ونفث سموم غازاته ومصانعه في الفضاء الجميل، ودمر البحر والأرض، ولم يكتفِ بذلك فدمر السماء، فأحدث فيها ثقباً مدمراً ستعاني منه الأجيال القادمة.
هذا الذي كنَّا نتحدث عنه في بداية مقالنا هنا، وهو أن من سيدفع ضريبة التطور العمراني لا الحضاري هم الأجيال القادمة، وربما نحن اليوم ندفع جزءاً منه أيضاً، فالأمراض انتشرت، والأوبئة عادت من جديد، وها هو البحر والجو وكل ما يحيط بنا وبأنفاسنا وأجسامنا أصابهم التلوث الخطير.
ندفن البحر لأجل السكن ولأجل شق الطرق السريعة، وفي ذات الوقت نقضي على الثروات البحرية وعلى مصائد السمك والشعب المرجانية ومحاضن كافة الكائنات البحرية الجميلة، ولأجل الحصول على طاقة جديدة للعيش بطريقة ديناميكية جامدة نقوم بإنشاء محطات نووية بالغة الخطورة، ولكي نتسابق مع الدول الأخرى في البناء المعماري قمنا بملء أراضينا بالعمارات الإسمنتية الغبية دون أن نحصل على الإنسان الحضاري والراقي الذي يسكنها، ولكي نصل سريعاً إلى حيث نشاء؛ قام بعض البشر باختراع السيارات والطائرات والمركبات، فكانت المصيبة أن ما تنفثه هذه الأجهزة الحديثة من مخاطر على البيئة وصحة الإنسان أكبر من كل فائدة نتحصل عليها اليوم!!.
نحن لا ندعو إلى الرجوع إلى حياة الكهوف أو الإبقاء على معالم الحضارات البدائية في عالمنا الراهن، لكن حين تتطور الحياة المدنية يجب أن تتطور بشكل إنساني وليس بشكل حيواني، فهناك تكنولوجيا بشعة، وهناك أيضاً تكنولوجيا إنسانية رائدة، ولأن الأولى هي الأرخص والأسرع، لهذا كانت خيار الإنسان العجول، أما الثانية فلأنها مكلفة وأبطأ من أختها فتركها الإنسان، وكان ظلوماً جهولاً.
من عاش حقبة الستينات وحتى السبعينات من القرن المنصرم يدرك حقيقة ما ذكرناه، فالبحر كان جميلاً، والأسماك كانت أكثر لذة، أما الهواء النقي فكان سحراً عبقاً حين يخرج ما بين النخيل والعيون، أما اليوم وباختصار شديد، فإن الحضارة اليابسة العمياء سلبت منَّا كل ما هو أصيل وجميل وفطري، فقط لتوفر لنا بعض المسافات والقليل من الوقت.
غاب البحر من البحرين، وقُتلت نخيلها لأجل عمارات وأموال وغنائم، فلم نحصل على ما يخدم واقعنا بالطريقة الحضارية والإنسانية الرائدة، ولن تحصل الأجيال القادمة سوى على فُتات من موائدنا الأنانية الجشعة.