حين صوتنا على الميثاق وبدأنا صفحة جديدة من صفحات الإصلاح السياسي وعادت الحياة النيابية، كان ذلك عوداً حميداً، إنما مع الأسف كان عوداً أعرج، فديمقراطية دون التزام بالقوانين التي تسنها السلطة المنتخبة تعد ديمقراطية مشوهة، غير سوية، ديمقراطية تخترق بالاستثناءات، ديمقراطية ناقصة، مضرة لا نافعة.
عشر سنوات مضت، تصاعد فيها مؤشر التشريعات والصلاحيات والحريات للإنسان البحريني، لكنها عشر سنوات تدهور فيها مؤشر ممارسة تلك المكتسبات إلى الحضيض، حتى فقدنا قيم ومبادئ إنسانية وحقوقية، وفقدنا الشعور بالأمن والاستقرار والإيمان بأننا دولة مؤسسات ودولة قانون.
في البحرين تزامنت مظاهر عدم الالتزام بالقانون مع عودة الحياة النيابية، إذ سادت ثقافة الحقوق والحريات، على ثقافة الالتزام والاستحقاق والواجبات، وتزامن ضعف تطبيق القانون، مع حصول الإنسان البحريني على مكتسباته الديمقراطية.
بدا التمرد على القانون من “الرموز” الشعبية، فأعلن عن تشكيل مؤسسة مدنية، وهي “المجلس العلمائي” ورفض القائمون على المؤسسة الخضوع لقانون المؤسسات، هناك كان مفصل، وهنا كان منعطفاً، وهنا كان الامتحان الأول الذي سقطت فيه الدولة بامتياز، وكان لزاماً حينها أن يكون هناك حزم وجدية في تطبيق القانون، فالحريات لها ضوابط، والديمقراطية لها ثمن، لكن الدولة تغاضت عنها فكان المسمار الأول في نعش الديمقراطية.
ثم أعلنت جماعة شيعية من قمة رأسها إلى أخمص قدميها عن تأسيس حزب سياسي، مخالفة بذلك قانون الجمعيات السياسية الذي يحظر التأسيس على أسس مذهبية، فكان ذلك المسمار الثاني في نعش الديمقراطية، الاثنان تحديا الديمقراطية تحديا دولة القانون والمؤسسات، فماذا فعلت الدولة؟ الدولة سكتت وتغاضت بل كرمت و”قلطت” و”رزت” كل مخالف وكل متجاوز وكل منتهك للقانون، وكان ذلك بداية الانهيار، فتلك ديمقراطية زائفة عرجاء، ديمقراطية تمنح استثناءات ليست ديمقراطية.
ثم توالت الانهيارات بتوالي الاستثناءات من القانون، وكلما سنت السلطة التشريعية قانوناً خالفه البعض، وحين يراد تطبيق القانون، ذهب يتشكى ويطلب الاستثناء فيتم منحه الاستثناء، فلا قانون لجمع الأموال نفذ، ولا قانون الأحوال الشخصية نفذ، ولا قانون مكبرات الصوت نفذ، ولا قانون كادر الأئمة والمؤذنين نفذ، والقائمة تطول، والعفو يطول والسبحة كرت، حتى وصل بنا الحال إلى الاستهزاء بالسلطة التشريعية، وبضياع هيبتها، حتى جاء الوقت الذي تسحق فيه هيبة الدولة من خلال منابر علنية، وتتحدى فيها جمعية سياسية وكتلة برلمانية سابقة قانون شرعته السلطة المنتخبة، إنه انحدار إلى القاع وهدر لكل قيم الديمقراطية تلك التي يدعي البعض أنه يسعى لها.
حين يكون هناك ميثاق وطني ويكون هناك دستور وتكون هناك سلطات منتخبة، يكون معها حزم وقوة وثبات في تطبيق القانون ملازم لها ومكمل لها، فلا يجوز العمل بأحدهما وتعطيل الثاني وإلا هي الفوضى والخراب.
اليوم جاء دور الانتفاضة الشعبية على هذا الانحدار، وأن تعود السلطة بالفعل للإرادة الشعبية، لتكون هي المراقب على نفاذ إرادتها، اليوم جاء دور السلطة الشعبية، لتعيد الاعتبار للقانون وتمنع تجاوزه، وتحاسب السلطة التنفيذية إن تهاونت في تطبيق إرادتها.
اليوم على مؤسسات المجتمع المدني بكل قطاعاتها السياسية والمهنية والعمالية والاجتماعية والدينية كلها أن تضغط على السلطات الثلاث، وعلى النظام السياسي كله تطبيق وإنفاذ القانون، ولن تقف أمام الإرادة الشعبية قوة في العالم، لها حق التدخل في الحيلولة بين الإرادة الشعبية وبين ما سنته من قوانين عبر سلطتها المنتخبة.
لا قلق أمريكي ولا قلق دولي سيحول بين الشعب وبين إرادته، ولا حتى تهاون الدولة وخضوعها للابتزاز.
آن أوان الانتفاضة الشعبية، من خلال ضغط يتم ببيانات، وبعرائض ومؤتمرات وبندوات ومناشدات وإن “حجت حجايجها” بمسيرات، وكل ما يملك الرأي العام من أدوات وحراك شعبي، لإلزام السلطة التنفيذية بالقيام بواجبها، أي بإنفاذ القانون.
فلا أحد فوق القانون، ولا جهة تحت أي مبرر تحتج بخصوصية أو بشرعية غير شرعية القانون.
وزارة العدل ووزارة العمل ووزارة التنمية الاجتماعية، وكل الوزارات ملزمة بنفاذ القانون على الجهات المخالفة وإحالة مخالفاتها القانون للقضاء، وفق ما يقتضيه النص القانوني، ولن نسمح.. لن نسمح باستثناءات تحت أي مبرر مذهبي أو غير مذهبي، لابد أن يستقيم ذلك الاعوجاج وتحلق الديمقراطية بجناحيها “حريات + قانون ينظمها”.
كفى ثم كفى ثم كفي.