في ذروة الحنين إلى زمن عراقي أبلج، في ظل المواجع اليومية التي يعيشها العراقي اليوم، ليعتبر بها أهلي العرب في كل أقطارهم، أكتب هذه الأسطر:
والملوك هنا هم ليسوا أهل التيجان والعروش الذين كانوا قمماً في الأخلاق والدين، في النزاهة والعفة وطهارة اليد والذيل، وحسب، بل أهل التيجان والعروش، من الرموز الخالدة في ضمير الشعب والوطن والتاريخ، ملوك الأخلاق الرفيعة والذمم والضمائر النقية، من الشخصيات والمسؤولين والساسة، الذين إن استذكرناهم الآن، فإنما لنؤشر أن للشعوب تاريخاً بصفحات مشرقة، لا يمكن أن تسودها مدلهمات الليالي، وإن قلت زمن الملوك العراقي، فإنما لا ميزة بهم عن الزمن الرديء، الذي اغبرت أيامه حاضراً بكل ما يؤلم.
من ينسى المغفور له جلالة الملك فيصل الأول؟؟ ونوري السعيد وجعفر العسكري وياسين الهاشمي وجعفر أبو التمن ومحمد رضا الشبيبي وعبدالمحسن السعدون؟؟ وغيرهم كثيرون، وقد غادروا الدنيا ولم يتركوا وراءهم من متاعها ما يترك اليوم تجار السياسة الفاسدون، ولم يكن الفساد والرشوة أمرين متعارفاً عليهما في ذلك الزمن الجميل، وكان من يوصم بهما، تلاحقه سبتهما حتى مماته، إن لم تمتد إلى ما بعده لتسم أهله وأحفاده.
المغفور له جلالة الملك فيصل الأول غادر الدنيا وهو لا يملك من حطامها شيئاً.
المرحوم نوري سعيد قتل بعد عقود من احتلاله المراكز الأولى من المسؤولية، وفي حسابه الخاص أربعون ديناراً “ما يقرب في حينها من 130 دولاراً فقط” هي المتبقية من رواتبه.
الملك فيصل الثاني، أثناء زيارته جمعية الهلال الأحمر الخيرية، تبرع بمائتين وخمسين ديناراً، وعندما عاد إلى قصر الرحاب، أخبره مسؤول الخزينة، أن صلاحياته لا تسمح له بالتبرع بمثل هذا المبلغ، وأن ما هو موجود في حسابه الخاص لا يكفي لتغطية ما تبرع به، وعندها تساءل غاضباً، ولكني وعدتهم؟؟ فتم الاتفاق على إقراضه المبلغ، على أن يتم استقطاعه من رواتبه على دفعات؟؟
أما الزعيم عبدالكريم قاسم، فمن المعروف لدى العراقيين، أنه قتل وهو لا يملك داراً للسكن، في حين بنى لكل ضباط الجيش العراقي، أحياء سكنية عديدة، وحكاية دفعه بضعة دنانير من جيبه الخاص لمرافقيه، ليجلبوا له ولضيوفه من المسؤولين، إذا ما تأخرت اجتماعاتهم، الكباب المشوي من المطاعم البغدادية الشعبية، يتذكرها كل من عايشه.
جمال عمر نظمي، الوزير والمحافظ والسفير في أكثر من دولة، توفي وهو يسكن داراً مبنية على عرصة “أرض مملوكة للدولة”، تملكها أبناؤه بعد سنين من وفاته.
ومن يقرأ مذكرات القاضي محمود خالص، بجزأيها الأول والثاني، “ذاكرة الورق”، وهو الرجل الذي تدرج في مناصب القضاء، حتى وصل رئاسة أعلى هيئة قضائية، محكمة التمييز “النقض”، يجد هذه النزاهة علماً متجلياً في فقره البين، في حين كان يمكن لمنصبه أن يجعله من أثرى أثرياء العراق لو خالف ضميره.
وحفيد رئيس وزراء العراق جعفر أبو التمن، يسكن اليوم شقة سكنية متواضعة في بغداد اشتراها من رواتبه، وهناك قصص أكثر بكثير مما ذكرت في ذات السياق.
ما أريد قوله، إن طهارة اليد والذيل، كانتا القاعدة في بلدي، والاستثناء كان الارتشاء والقبول بالفساد، وإن ما يحدث الآن، هو الآخر، الاستثناء وليس القاعدة، وإن تمظهر زمن العراق اليوم مظهر كل ما هو رديء ومؤلم، وكل ما يمكن أن يتخذ مثلاً سيئاً، إنما ما يبقيه قائماً، هو نقص إرادة التغيير في نفوسنا وضعفنا أمام استحقاقاته.
{{ article.visit_count }}
والملوك هنا هم ليسوا أهل التيجان والعروش الذين كانوا قمماً في الأخلاق والدين، في النزاهة والعفة وطهارة اليد والذيل، وحسب، بل أهل التيجان والعروش، من الرموز الخالدة في ضمير الشعب والوطن والتاريخ، ملوك الأخلاق الرفيعة والذمم والضمائر النقية، من الشخصيات والمسؤولين والساسة، الذين إن استذكرناهم الآن، فإنما لنؤشر أن للشعوب تاريخاً بصفحات مشرقة، لا يمكن أن تسودها مدلهمات الليالي، وإن قلت زمن الملوك العراقي، فإنما لا ميزة بهم عن الزمن الرديء، الذي اغبرت أيامه حاضراً بكل ما يؤلم.
من ينسى المغفور له جلالة الملك فيصل الأول؟؟ ونوري السعيد وجعفر العسكري وياسين الهاشمي وجعفر أبو التمن ومحمد رضا الشبيبي وعبدالمحسن السعدون؟؟ وغيرهم كثيرون، وقد غادروا الدنيا ولم يتركوا وراءهم من متاعها ما يترك اليوم تجار السياسة الفاسدون، ولم يكن الفساد والرشوة أمرين متعارفاً عليهما في ذلك الزمن الجميل، وكان من يوصم بهما، تلاحقه سبتهما حتى مماته، إن لم تمتد إلى ما بعده لتسم أهله وأحفاده.
المغفور له جلالة الملك فيصل الأول غادر الدنيا وهو لا يملك من حطامها شيئاً.
المرحوم نوري سعيد قتل بعد عقود من احتلاله المراكز الأولى من المسؤولية، وفي حسابه الخاص أربعون ديناراً “ما يقرب في حينها من 130 دولاراً فقط” هي المتبقية من رواتبه.
الملك فيصل الثاني، أثناء زيارته جمعية الهلال الأحمر الخيرية، تبرع بمائتين وخمسين ديناراً، وعندما عاد إلى قصر الرحاب، أخبره مسؤول الخزينة، أن صلاحياته لا تسمح له بالتبرع بمثل هذا المبلغ، وأن ما هو موجود في حسابه الخاص لا يكفي لتغطية ما تبرع به، وعندها تساءل غاضباً، ولكني وعدتهم؟؟ فتم الاتفاق على إقراضه المبلغ، على أن يتم استقطاعه من رواتبه على دفعات؟؟
أما الزعيم عبدالكريم قاسم، فمن المعروف لدى العراقيين، أنه قتل وهو لا يملك داراً للسكن، في حين بنى لكل ضباط الجيش العراقي، أحياء سكنية عديدة، وحكاية دفعه بضعة دنانير من جيبه الخاص لمرافقيه، ليجلبوا له ولضيوفه من المسؤولين، إذا ما تأخرت اجتماعاتهم، الكباب المشوي من المطاعم البغدادية الشعبية، يتذكرها كل من عايشه.
جمال عمر نظمي، الوزير والمحافظ والسفير في أكثر من دولة، توفي وهو يسكن داراً مبنية على عرصة “أرض مملوكة للدولة”، تملكها أبناؤه بعد سنين من وفاته.
ومن يقرأ مذكرات القاضي محمود خالص، بجزأيها الأول والثاني، “ذاكرة الورق”، وهو الرجل الذي تدرج في مناصب القضاء، حتى وصل رئاسة أعلى هيئة قضائية، محكمة التمييز “النقض”، يجد هذه النزاهة علماً متجلياً في فقره البين، في حين كان يمكن لمنصبه أن يجعله من أثرى أثرياء العراق لو خالف ضميره.
وحفيد رئيس وزراء العراق جعفر أبو التمن، يسكن اليوم شقة سكنية متواضعة في بغداد اشتراها من رواتبه، وهناك قصص أكثر بكثير مما ذكرت في ذات السياق.
ما أريد قوله، إن طهارة اليد والذيل، كانتا القاعدة في بلدي، والاستثناء كان الارتشاء والقبول بالفساد، وإن ما يحدث الآن، هو الآخر، الاستثناء وليس القاعدة، وإن تمظهر زمن العراق اليوم مظهر كل ما هو رديء ومؤلم، وكل ما يمكن أن يتخذ مثلاً سيئاً، إنما ما يبقيه قائماً، هو نقص إرادة التغيير في نفوسنا وضعفنا أمام استحقاقاته.