نكرر دائماً جملة “الساكت عن الحق شيطان أخرس”، دلالة على أن من يرى حقاً ويسكت عنه بما معناه التغاضي عن الخطأ، فإن هذا الشخص يشارك في دعم الخطأ وتأييده حتى وإن لم يتخذ أي موقف.
السكوت عن الأخطاء لا يعني الوقوف على الحياد أبداً، فالحياد هنا “تحديداً” يعني الرضا بما يحصل، خاصة وإن كان بمقدورك تغيير الواقع إلى واقع أفضل، وإن كنت صاحب السلطة في دعم الحق ودحض الباطل.
لدينا في المجتمع العديد من الممارسات بعضها يتضح وبكل وضوح بأنها أخطاء تمارس إما عن عمد وإما ناتجة عن زلل معين، بيد أن الفيصل في هذه الأمور أن معرفة الأخطاء لابد وأن تعقبها عملية تعامل معها، بحيث تصحح، وتتم محاسبة من تسبب بها خاصة إن كان ضررها كبيراً وتركت آثاراً جسيمة على المجتمع.
في البحرين لدينا أمثلة عدة عن أخطاء يتم السكوت عنها، بل يتم التغاضي عنها في أحايين عديدة، بحيث نرى المتسببين فيها بعيدين عن المحاسبة، بل حتى عن المساءلة، وبالتالي نرى هذه الأخطاء تترسخ ويتم التأسيس لها وتتحول بعد فترة إلى عملية مسلم بها لا تستدعي حتى الاستنكار.
هنا الكارثة العظمى، إذ حين تتحول مسألة مثل إهدار المال العام والتي في تبسيطها اللغوي كمفهوم تعني “السرقة” والتعدي على أموال عامة هي ملك الدولة والمواطنين المفترض أن ينتفعوا منها عبر مشاريع وخدمات وغيرها، الكارثة أن تتحول مثل هذه الممارسة الخاطئة إلى أمر اعتيادي، مرتكبه لا يصنف على أنه “سارق” أو “مخل بالأمانة”، بل المفارقة أن بعض هؤلاء السارقين يتحولون لأعلام في المجتمع، وجهاء، مسؤولين كبار، بل يصلون لمرحلة يفعلون فيها ما يشاؤون من ممارسات خاطئة على الملأ بقوة المنصب.
هنا السكوت عن مثل هذه الأخطاء من الجهات المعنية والملزمة بأن تتخذ موقفاً جاداً إزاءها، ماذا يمكن أن نسميه؟!
عندما أسكت عن سارق، وعندما أتستر على سرقة، في وقت أملك فيه القدرة على محاسبة السارق واسترجاع ما تم سرقته، فإنني أكون مشاركاً فاعلاً في العملية، كونني هيأت الأرضية لتتم العملية من خلال السكوت عن مرتكبها وعدم اتخاذ الإجراء المطلوب.
تقارير الرقابة المالية وما تحتويه من “بلاوي ومصائب”، عملية توثيق مهمة ومطلوبة في مجتمع ديمقراطي ينشد الإصلاح ومحاربة الفساد، لكن حينما يتحول هذا الرصد الضخم إلى مجرد توثيق تاريخي في كتب توضع في الأدراج ويتم نسيانها فهنا ندخل في خانة “السكوت عن الحق”.
المعنيون بمحاسبة المسؤولين المخلين بواجباتهم، والذين بسبب أدائهم غير الصحيح، أو ضعف رقابتهم على قطاعاتهم تجمعت لدينا هذه الأخطاء، المعنيون بالمحاسبة إن لم يتخذوا إجراءات مؤثرة في اتجاه محاربة كل ذلك، هم من يفترض مساءلتهم قبل الذين ارتكبوا الأخطاء، إذ لماذا سكتم؟! ولماذا لم تحاسبوا المعنيين؟! ولماذا لم تقوموا بالإجراء المطلوب لتصحيح هذه الأخطاء الجسيمة؟!
المسؤولية ليست ملقاة على عاتق السلطة التشريعية فقط، باعتبارها صاحبة الحظوة في عملية المساءلة والمحاسبة وحتى طرح الثقة، إذ في وضعنا المحلي تتحمل الدولة مسؤولية تجاه تصحيح الأخطاء، إذ من غير المعقول لو وجدنا فساداً واضحاً في قطاع ما، أو طغياناً غير طبيعي لمسؤول حول القطاع الذي يتولى مسؤوليته إلى “عزبته الخاصة”، من غير المعقول أن تنتظر الدولة تحرك النواب حتى يكون هناك إجراء! لنفرض بأن النواب لم يتحركوا، وهذا أصلاً ما حصل بشأن تقارير الرقابة المالية والإدارية العديدة التي لم نشهد إزاءها تحركاً جدياً، لنفرض ذلك، هل يبرر للدولة سكوتها؟!
أبداً غير مبرر السكوت عن أخطاء وعن مرتكبيها، في وقت ننشد فيه الإصلاح، ولا يوجد مبرر من السكوت عن ممارسات خاطئة بالإمكان اتخاذ إجراء سريع فيها يصحح مسار البوصلة.
ما تسبب بهذا الهدر المالي الضخم، وما تسبب بالفساد الإداري، وما يقود الناس لـ«الكفر” في كثير من الأحيان بمشاريع الدولة حينما توضع في يد غير أمينة، هو السكوت عن الأخطاء، هو التغاضي عن أخطاء المسؤولين، بل إيجاد الأعذار لهم والتغطية عليها بما يوفر لهم الحماية، بينما المنطق يفرض بأن تتم إقالة المقصر ومحاسبته.
إن أردنا إصلاح الأخطاء التي باتت تستشري في المجتمع على المعنيين وأصحاب القرار عدم السكوت عن الحق، عدم القبول بأن تمر الأخطاء هكذا بلا وقفة جادة، والأهم ألا يقبلوا بأن يستمر المخطئ والسارق والمستهتر في منصبه، إذ نحن نتحدث هنا عن دولة من غير المعقول أن يكون الاستهتار بمالها العام والسرقة منه أسهل من سرقة “سوبرماركت”!
- اتجاه معاكس..
مثال على السكوت عن الأخطاء الفاضحة، ما تم الكشف عنه من ممارسات خطيرة قام بها اتحاد البحرين للعمال “المسيس”، ومعرفة وزارة العمل بكافة التفاصيل الدقيقة بشأن هذه المسألة، لكن رغم ذلك، ورغم أصوات العديد من النقابيين المخلصين لوطنهم، إلا أن الدعم غير الطبيعي للاتحاد “المسيس” والذي طعن البلد في ظهرها خلال الأزمة يزيد ويتعاظم، وكأن الوزارة قابلة بكل ما يفعله الاتحاد وتبرر له، بدلاً من أن تكون هي متخذة القرار بمحاسبته بشكل صارم وحله كونه مازال يمثل فرعاً من فروع الطيف الانقلابي الذي حاول اختطاف البحرين.
ما يحصل في هذه المسألة هو سكوت صريح عن الحق، ودعم تام للباطل من قبل الجهة المعنية.
وعليه ننتظر أن تتحرك جهات أعلى من وزارة العمل في هذا الشأن، لأن التعويل على أن تتخذ الوزارة إجراء صحيحاً وفق القانون باتت ضرباً من المستحيل.