لاشك أن هناك سبباً وجيهاً أرغم المبدعة البحرينية نورة أحمد الشيراوي، كي توشم ديوانها الأخير، الصادر مؤخراً عن “مركز الشيخ إبراهيم بن محمد آل خليفة” بمدينة المحرق بعنوان “أوراق ذابلة”. فمن يتصفح قصائد الديوان بتمعن يكتشف أن كلمات كل شطر منها هي بمثابة أزهار رقيقة تناثرت فوق صفحات أوراقة النضرة كحبات عقد لؤلؤ نضيد سورت في حنان عنق فتاة لفحته شمس الخليج فأكسبته سماراً حنطياً ضاعف من تألق تلك اللآلئ فراح بريقها يخطف الأبصار. لكن يبدو أن النصوص المدونة فوق أوراق الديوان إنما هي قراءة صامتة لواقع العربي عاشته نورة، ومن ثم تلمست حالة التردي التي أجبرتها على أن ترى أوراقها ذابلة تعبيراً عن رغبة ذاتية تلح في بث لواعج مشتتة عانت من آلام أمراض تنخر الجسد العربي حتى شوهته، ثم عادت فتطورت إلى عاهات مستديمة في معظم أطرافه أفقدت من يتابعها الأمل في قدرة ذلك الجسد على التشافي منها. يلمس قارئ الديوان تلك المسحة المتشائمة التي تسيطر على ريشة نورة في كل حرف سطرته لوصف الواقع العربي المترنح، كي تصعق قارئها في ثاني قصائد تلك الأوراق التي حملت عنوان “مرغريتا وليلة الميلاد”، عندما قالت:
«وترنحنا وبعد الثانية.. خير أمة أخرجت للناس.. عادت كالقبور الدائرة.. كالعظام النخرة”، إلى أن تقول: “إن في دمي جروحاً أبدية.. كلنا في الهم شرق يا صبية.. إشربي يا مرغريتا.. وتناسي كل أبعاد القضية”.
ويبلغ ذبول أوراق نورة أو بالأحرى تشاؤمها من تلك الحالة العربية المتهاوية عند تناولها في قصيدة جريئة لاذعة كل من نراهم اليوم يتاجرون بالإسلام الحنيف ديناً، ملتحفين بقشوره كي يستروا عورات جرائمهم وربما تحجرهم، فتهاجمهم في صراحة غير مسبوقة بالقول: “لسنا بمؤمنين.. قد كفى مهازل وثرثرة.. فنحن قوم مؤمنون بالوراثة.. نحن نصلي الخمس بالوراثة.. صيامنا وحجنا وراثة.. والله يأبى الدين بالوراثة”، مستطردة في فضح من شوهوا هذا الدين صارخة: “الدين ليس في قصيدة.. تقال في مدح النبي.. والدين ليس في قصيدة.. نشيد فيها بالنبي”.. ثم تعرج كي تبرز مناقب الرسول (صلى الله عليه وسلم)، الذي رفض القشور وحرص على الجوهر، فتقول داعية للإقتداء به: “صلى الرسول في مرابض الغنم.. صلى الرسول في الوهاد والشعب.. وزلزلت قياصرة.. وحررت بالسيف والكتاب أمة العرب..” إلى أن تنتهي بالقول: “فلم نعد بجهلنا -للأسى- نجيد إضحاك الأمم.. وإنما -بما وراء جهلنا-.. مثار إشفاق الشعوب والأمم”.
وتواصل نورة استهجانها لما وصل إليه حال الدين الإسلامي الحنيف، ليس على أيدي أعدائه، بل بفضل سلوك من نصبوا أنفسهم مدافعين عنه، قائلة في قصيدة تبحث فيها عن الحقيقة: “يا إلهي ما الحقيقة؟.. كلنا ضل طريقه”، إلى أن تقول وهي لا تكف عن بحثها يائسة عن تلك الحقيقة: “كيف عاد الدين، دين الله رعباً وعذاباً ونكالاً.. كيف عاد الدين، دين الله في القبر حساباً ووبالاً.. كيف عاد الدين، دين الله سيفاً وحبالاً واغتيالاً.. يا إلهي ما الحقيقة”.
أما في قصيدتها “الانتفاضة” التي أهدتها إلى شاعر البحرين الكبير إبراهيم العريض رحمه الله، فنجدها تجدل كلماتها بشكل ذكي مبدع بين الذات والموضوع قائلة: “وتغنينا بمجد الانتفاضة.. وجرينا كبغال في المخاضة.. وصرخنا كالسكارى.. ويل أحلام السكارى.. انتصرنا انتصرنا.. منتهى المأساة إن كنا جننا وانتهينا.. هل هذا انتصار ما نراه أم جنون واندحار وانتحار.. منتهى المأساة إن كنا جننا وانتهينا”.
أما قصيدتها المهداة إلى الجندي المصري سليمان محمد عبدالحميد خاطر الذي قتل في السجن في ظروف غامضة في 7 يناير 1986، تسترت عليها السلطات المصرية التي كانت قد أصدرت عليه حينها، بعد إلقاء القبض عليه، حكماً بالسجن بالأشغال الشاقة المؤبدة لمدة 25 عاماً بعد إطلاقه النار على مجموعة من السياح الإسرائيليين كانوا يتحدون تحذيراته المتكررة لمنعهم من تسلق هضبة كانت عليها نقطة حراسته في منطقة “برقة” بجنوب سيناء، فقتل سبعة منهم من أصل 12 سائحاً، فنجدها تمزج بشكل خلاق بين السخرية والألم فكانت مزيجاً بين الألم والتهكم.
تستهل نورة قصيدتها التي اختارت لها عنواناً غاية في السخرية وهو “إلى شهيد قاتل”، فهناك تناقض متعمد في ذلك العنوان الذي يجمع في شخصية واحدة صفتا “الشهادة” و«القتل”، وهو ما تجسمه نورة بشكل فيه الكثير من الإبداع حين تقول “مساوية” في صيغة تهكمية بين تينيك الصفتين: “لكننا وفي الغد القريب سادتي.. ستهدأ النفوس تهدأ المشاعر.. وفي الغد القريب ننسى اسمه وصورته.. وثم ننسى في الزحام لونه واسمه وقريته.. سيان في أوطاننا السعيدة.. من مات في فراشه.. أو مات من رصاصة بندقية.. لا تسألوا.. عاد الشهيد مجرماً وقاتلاً.. وهكذا صنفت القضية”.
تتألق نورة، وهي مصرة على ألا تفرط في تشاؤمها الذي تشرك قارئها فيه والنابع من معاناة حقيقية في قصيدة “الأبجدية”، التي يبدو أنها استوحتها من بعض الأهازيج الفلكلورية البحرينية التي يرددها الأطفال في بعض المناسبات الدينية. تتحول الأبيات هنا ما يشبه المسرد اللغوي المرتب هجائياً، تستعين نورة بكل حرف من حروفه كي تستحضر صورة من صور “الذبول العربي”. تصر نورة أن تتوقف عند كل حرف من حروف تلك “الأبجدية” كي تجتر آلام طريق التغييرات المستديرة إلى الخلف التي عرفتها المنطقة العربية خلال سنوات النصف القرن الماضي حصيلة للانقلابات العسكرية، فحرف “الثاء” لديها هو، “والثاء مثل ثائر وثورة... تذكروا ثوراتنا المجيدة.. تلك التي جاءت علينا بالشجون.. والأغلال والضحايا”، حتى تصل إلى حرف “الزاي” وهي مستمرة في وصف دقيق لتلك الثورات التي أخذت بيد العسكر من ثكناتهم كي توصلهم من خلال فوهات مدافع مصفحاتهم إلى سدة الحكم، فتقول فيهم: “والزاي في زنزانة.. تلك التي طورت وصممت.. للثورة المباركة.. لابد للثورات من زنزانة.. عصرية حديثة.. تواكب الحداثة.. لكل من يسأل عن الحقيقة”.
ويبلغ “الذبول “ العربي الذي تراه نورة قد تهاوى فجرد الضمير العربي من كل قيمه حتى وصل إلى نخاع العمود الفقري للجسم العربي فأصيب بهشاشة كتلك التي تنخر عظام الجسد، عندما تقول: “والهاء في هشاشة.. كما يقال في هشاشة العظام.. ربما الضمير والمبادئ”.
ولا تتوقف نورة عن سخريتها اللاذعة الصادرة عن معاناة حقيقة حفرها التخلف العربي فحولها إلى أفعى تنفث سموم “اليأس” في صدر نورة الذي ينزف ألماً قائلاً: “والياء في يأس وقيل (اليأس إحدى الراحتين) في أمثالنا العتيدة.. لذا ترانا صامدين.. كالصقور في أوكارها البعيدة”.
أوراق نورة النضرة، حولها الواقع العربي إلى كلمات اعتبرتها صاحبتها “ذابلة” كي تلفت القارئ إلى ما قد يحاول أن يتجاهله، فجاءت تماهياً صادقاً بين واقع تعيشه وطموح ترنو إليه. فجاء ذبول الأوراق نتيجة منطقية لقراءة دامية للواقع العربي المعاصر الرديء الذي يجاهد الجميع كي ينكروه، فيما عداها هي
{{ article.visit_count }}
970x90
{{ article.article_title }}
970x90