التدخل في الشؤون الداخلية للدول مخالف للقانون الدولي -هذا أمر بديهي- بل ويعتبر أسوأ ما يمكن أن يعتري العلاقات بين الدول، ولكن ولتحسين صورة هذا التدخل المرفوض شعبياً وقانونياً وسياسياً وأخلاقياً، أضيفت له صفة “الإنساني” أو الديمقراطي، لتبرير النكوص عن واحد من أكثر المبادئ رسوخاً في القانون الدولي، وهو “عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول”، هذا التدخل الذي بدأ يهدد الأوضاع القائمة والتي على أساسها يقوم الأمن الدولي والاستقرار الذي يؤمن للشعوب فرصة العيش والبناء، خاصة في البلدان الصغيرة والمتوسطة على الصعيدين الجغرافي والسكاني، خاصة بعد انهيار البنية القيادية الثنائية للنظام العالمي القديم الذي كان قائماً قبل انهيار الاتحاد السوفيتي، تلك البنية التي حلت محلها بنية أحادية القطب انفردت فيها الولايات المتحدة الأمريكية بمقاليد الهيمنة العالمية، أثر ذلك تأثيراً بنيوياً فادحاً على السيادة الوطنية للدول المتوسطة والصغيرة بصفة خاصة.ففي ظل النظام القديم (ثنائي القطبية) كانت هذه الدول تستطيع أن تناور من خلال المسافة الواسعة بين القطبين، للتقليل احتمال إرغامها على فعل ما لا تريده أو التوقف عن فعل ما تريده، بدرجة أو بأخرى، أما في ظل الأوضاع الدولية الحالية الراهنة فإن تلك الدول لم يعد أمامها سوى أن تكون مع الولايات المتحدة الأمريكية أو ضدها، فإذا كانت معها تصبح جزءاً من منظومة في أحسن الأحوال، أو جزءاً تابعاً يقدم خدمات مساندة في اغلب الأحيان، وإذا كانت ضدها ولو بدرجة محددة -وهو ما تجرأت عليه بعض الدول المحاصرة إلى اليوم- أو ليس ضدها أو معها، فان عليها أن تتوقع كل شر مستطير يمكن أن يصلها، ومنه على وجه التحديد ضروب الحصارات والمنع والحظر والعقوبات والتفتيش.وهذا يعني في الخلاصة أن هذه الدول إما أن تتبنى الأطروحات الأمريكية طوعاً أو كرها وإما أن تخاطر بمواجهة مفتوحة ينبغي أن تتحسب لها بأقصى درجة من “العقلانية والحسابات الرشيدة”، خاصة وأن البنية القيادية الراهنة للنظام الدولي أتاحت للدولة العظمى الوحيدة سيطرة كاملة على مجلس الأمن مكّنتها من أن تستظل كثيراً في تدخلها في شؤون الدول بما يسمى بالشرعية الدولية، وقد شهد العالم ما الذي حل بالعراق و أفغانستان وليبيا، بالإضافة إلى المواجهات المحتملة الأخرى.لقد أصبح الحديث عن الديمقراطية وحقوق الإنسان لا يمثل أملاً حقيقياً للشعوب في البلدان العربية والإسلامية على حد سواء خاصة تلك التي ما زالت تحبو في طريقها الطويل نحو البناء الديمقراطي، وذلك لأن عصا الديمقراطية باتت تستخدم كذريعة من الدولة العظمى وحلفائها للتدخل في شؤون هذه الشعوب إن هي تجرأت حكوماتها على تحدي مصالح القوى المهيمنة في الأوضاع.ففي الخلاصة يمكن التوصل إلى النتائج التالية:- إذا ما أريد الإفلات من عالم (أحادي القطب) فلا مفر إلا الانتقال إلى عالم متعدد الأقطاب أو ثنائي على الأقل، يمنع تفرد القطب الأوحد وهيمنته على العالم، وفي ظل الوضع الحالي وما يعيشه العالم من تنافس سلبي كبير فلا أمل يلوح في الأفق يشير إلى نهاية الاحتكار المطلق للساحة من قبل لاعب واحد، وسحق إرادات الدول الأخرى.- لأن اتساع تأثير التيارات الفكرية والسياسية التي ظهرت في ظل التحوّلات الجديدة تدعو إلى تقليص سيادة الدولة التي لم تعد الطرف الوحيد المؤثر في العلاقات الدولية بعد بروز قوى جديدة تنافس الدولة وتشاركها في صنع القرار وصياغة السياسات الدولية، ومن هذه القوى المنظمات غير الحكومية والشركات المتعددة الجنسيات مما ساعد على ظهور خرائط جديدة للتفاعلات والمصالح الدولية قد لا تتطابق مع مصالح الدولة الوطنية، هذا بالإضافة إلى الدور المتصاعد لوسائل الاتصال الحديثة في اختراق سيادة الدول وتأثيرات المؤسسات المالية والتجارية العالمية على سياسات بعض الدول وفرض قواعدها الخاصة في التنمية.- إن سياسات قوى العولمة التي تعمل جاهدة على محو الخرائط الجغرافية للدول الإقليمية، وعمليات التدخل تقف حائلاً دون الإسراع بعمليات العولمة حيث يخلق التدخل حالات شاذة من التجزئة والكيانات الصغيرة المشوهة -مثل دويلة تيمور الشرقية ودويلة البوسنة والهرسك ودويلة الأكراد في شمال العراق ودويلة دارفور في السودان ودويلة الصحراء الغربية في الصحراء المغربية-، مما يجعل مهمة الأمم المتحدة شاقه وعسيرة فهي تتسع يومياً لعشرات الدول المستقلة حديثاً.- إن ما يطلق عليه اليوم بالسيادة “فوق الوطنية” ويتجلى في مختلف المجالات المدنية والتشريعية والاقتصادية والمالية والمؤسساتية وهي مجالات كانت في السابق تعد شأناً داخلياً، وهي الأنشطة التي أضحت تمارسها اليوم عديد الأطراف مثل المنظمات غير الحكومية والجمعيات والمجموعات السياسية والاقتصادية الفدرالية إلى جانب المؤسسات المالية، وهو مفهوم آخذ في الاتساع، باعتبار أن الجهود الدولية متجهة نحو مزيد من التكتلات الفضاءات الإقليمية وإشراك المجتمع المدني الدولي في التقييم والمتابعة والتحكم، فضلاً عن التأثير الهائل والمتزايد لقطاع تكنولوجيات الاتصال والإعلام وما يطرحه من تحديات تدعونا إلى تجديد أدوار الدولة الوطنية لتتمكن من رفع تحديات الديمقراطية والعدالة والشفافية والاعتماد على كسب ثقة الشعب باعتباره العنصر الفارق في تحصين المجتمع والدولة ضد الاختراق والوصاية.