تشهد ممالك الحيوانات والكائنات نوعين من الصراعات من أجل البقاء والعيش وضمان الاستمرار. الأول بين تلك القوية منها، من أجل اقتسام مناطق النفوذ والسيطرة، والأخرى بين تلك الأقوى من جهة وتلك الأضعف منها من جهة أخرى. وبينما يسيطر على النوع الأول سلوك المواجهة المباشرة، بعد استعراض العضلات، تتعدد أشكال الصراع بين القوى والأضعف منها وتأخذ أنماطاً متباينة. فعندما تحدد الحيوانات المفترسة القوية طرائدها الأضعف منها قبل الانقضاض عليها والتهامها، تلجأ إلى واحدة من طريقتين، إما رسم دائرة واسعة حول تلك الطريدة، تبدأ تلك الحيوانات الأقوى في تضييقها، رويداً رويداً، وبشكل منظم، حتى تصل إلى مركزها حيث تقف فيه تلك الطريدة التي تكون، بحكم تكوينها الفسيولوجي، أقل لياقة بدنية من مطاردها، فتصل إلى حالة الإنهاك قبله، كي تقع لقمة سائغة بين فكيه أو براثنه. أحياناً، ومن منطلق التنافس أو حتى التعاون من أجل اقتسام الغنائم، يشارك في المطاردة أكثر من حيوان مفترس. أما الطريقة الثانية فهي تلك التي يكون فيها الحيوان المفترس ساكناً متخفياً منتظراً فريسته التي لا تلحظ وجوده، قبل أن يثب عليها مباغتاً، مستفيداً من عنصر المفاجأة، وينقض عليها، بعد أن ينجح في إصابتها في موقع قاتل، تفقد جرّاءه القدرة على المراوغة أو الهرب. لكل واحدة من الطريقتين قوانيها الثابتة، وأساليبها المختلفة التي راكمها ذلك الحيوان المفترس، من خلال غرائز القتال من أجل البقاء عبر قرون من الزمان. ما يميز الثانية منها عن الأولى، هو الاعتماد على التباين في القدرات، بما يضمن توفير الجهد المبذول، وسرعة الحسم، واختزال الوقت للوصول إلى الهدف المنشود، والذي هو عند ذلك الحيوان المفترس تأمين الغذاء الذي يؤمن له مقومات البقاء والعيش.
مقابل ذلك، لا تقف الطريدة الضعيفة كما وصفنا مسالمة، فنجدها هي الأخرى تحاول أن تبني أسلحة دفاعاتها عن نفسها من أجل البقاء وفي سياق حربها على قوانين الانقراض، فنراها، وكي لا تقع ضحية سهلة المنال، تلجأ إلى الكثير من أساليب المقاومة المباشرة والمراوغة الذكية، أولها اللجوء إلى وسائل الهرب المباشر، الذي يشوبه الكثير من عناصر التمويه. لكن، وعندما يفقد كل ذلك جدواه، وعندما تفشل القوى الذاتية، وتقفل أبواب التمويه، نرى تلك الحيوانات الضعيفة في أحيان أخرى كثيرة، تلجأ -وتحت متطلبات الرغبة في البحث عن مصادر الأمان من أجل البقاء- إلى صرف نظر من يطاردها عنها، بتوجيه نظره نحو فريسة أخرى، تجعلها تبدو في نظره أكثر شهوة وأسرع نيلاً، فتنجو بنفسها، غير مبالية بمصير الفرائس الأخرى.
باختصار هناك صراع أبدي من أجل البقاء بين الحيوانات، بل وحتى بين سائر الكائنات، ينتهي دوماً بانتصار الأصلح من بينها ممن يستطيع تكييف نفسه، أو بناء نظام مقاومة قادر على هزيمة عناصر فنائه التي تفرزها ظروف البيئة المحيطة به، بما يضمن توفير سبل الاستمرار في الحياة، له ولأجياله -من جنسه- القادمة من بعده.
الصراع ذاته تشهده المجتمعات البشرية، لكن ليس من أجل الاستمرار في العيش فحسب، وإنما في سياق تطبيقها لسياسات الدفاع عن المصالح، وتنفيذ استراتيجيات توسيع مناطق النفوذ. فالصراع بين الحيوانات الأقوى، يناظره ذلك الصراع بين الإمبراطوريات الكبرى، والذي ينتهي ببروز واحدة على حساب الأخرى. وعادة ما يكون المنتصر فيها، تلك الإمبراطورية التي اكتسبت عناصر القوة، مقابل تلك التي بدأت تدب في أوصالها عناصر الشيخوخة والوهن. مقاييس القوة والضعف هنا نسبية وتخضع لقوانين الزمان والمكان، وهو أمر أورده العالِم الإسلامي ابن خلدون، بشكل تفصيلي في كتابه الأكثر شهرة بين جميع مؤلفاته وهو “المقدمة”، واستفاد منها من أتوا بعده، بمن فيهم علماء غربيون في تفسير ظهور وصعود، وفيما بعد انهيار الدولة الإسلامية في مختلف حقباتها.
لسنا بحاجة إلى الغوص عميقاً في تاريخ تطور المجتمعات البشرية، فنظرة سريعة إلى التاريخ المعاصر تكفي كي تعطينا الدليل على صحة ذلك، فقد تهاوت الإمبراطوريات الاستعمارية واحدة تلو الأخرى خلال ثلاثة قرون، بسبب الصراع الذي دب فيما بينها من أجل اقتسام مناطق النفوذ والسيطرة، وخرجت بريطانيا وفرنسا منتصرتين، في نهاية الحرب الكونية الأولى، لكونهما الأقوى بينها جميعاً. لم يدم الأمر طويلاً، فقد أزاحت الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي، فرنسا وبريطانيا، كي يعيدا اقتسام مناطق النفوذ بينهما إثر انتهاء الحرب الكونية الثانية.
والتفتت العاصمتان، موسكو وواشنطن، كل حسب قوة عضلاته العسكرية والسياسية، كي تعيدا اقتسام العالم فيما بينهما، على حساب الدول الصغيرة، تماماً كما تفترس الحيوانات القوية طرائدها من تلك الضعيفة. ولجأت كل منهما إلى إنهاك الأخرى عبر ما أصبح يعرف “الحروب بالوكالة”، مستفيدتين بشكل مستقل ومغاير، من ذلك النهوض الوطني الذي أعقب تلك الحرب، المطالب باستقلال الدول المستعمرة “بفتح الراء”، عن القوى الجاثمة فوق صدورها. دون الانتقاص من التضحيات التي قدمتها شعوب العالم الثالث من أجل نيل حرياتها.
فلو نظرنا إلى المناطق الملتهبة اليوم في دول العالم الثالث، ومرة أخرى دون الاستهانة بدور العامل الوطني المحلي فيها، فسوف نكتشف أنها في الكثير من الأحيان، تصفيات لذيول مخلفات مرحلة الحرب الباردة بين المعسكرين الاشتراكي والرأسمالي، جرّاء سقوط الأول وتشظيه، وبسبب دبيب الوهن في جسد الثاني وتفاقم المشكلات الاقتصادية التي باتت تنهك قواه.
هذه المقدمة المقتضبة التي لم يكن هناك بد من سردها، تقودنا إلى تلك المواجهة المحتملة بين طهران وحلفائها من جهة، وواشنطن ومعسكرها الدولي من جهة أخرى، والتي كما يبدو أنها لن تأخذ، كما أشرنا في المقدمة، شكل الكمون والانقضاض المباغت، وإنما التطويق وإنهاك القوى. وهو ما بدأت واشنطن في التحضير له منذ ما يزيد على عقد من الزمان، وتحديداً في مطلع القرن الحالي، مستفيدة من الأجواء الدولية التي تولدت بعد الهجوم على البرجين في عقر دار الولايات المتحدة، وعرفت باسم “هجمات سبتمبر 2001”.
بدأت واشنطن حملتها لمطاردة إيران تحديداً برسم دائرة واسعة أطلقت عليها “ الدائرة الإسلامية”، ونصبت طهران عاصمة لما أطلقت عليه “الإرهاب الإسلامي”، ثم أخذت في تضييق تلك الدائرة، دون ان ترمي خارجها دولاً إسلامية أخرى. لابد هنا من لفت النظر إلى أن الدوائر التي يحددها الإنسان لتطويق غريمه أو منافسه، تختلف عن تلك التي ترسمها الحيوانات المفترسة، فالأولى، بخلاف الثانية، ليست ثنائية الأبعاد، وليست واحدة فقط، فهي متعددة الأبعاد، أولاً، وغاية في التنوع، مما يجعلها تشمل أكثر من دائرة واحدة، وفي الوقت ذاته أيضاً، بما يضمن لها التكامل بشكل متوازٍ غير متتابع.
{{ article.visit_count }}
مقابل ذلك، لا تقف الطريدة الضعيفة كما وصفنا مسالمة، فنجدها هي الأخرى تحاول أن تبني أسلحة دفاعاتها عن نفسها من أجل البقاء وفي سياق حربها على قوانين الانقراض، فنراها، وكي لا تقع ضحية سهلة المنال، تلجأ إلى الكثير من أساليب المقاومة المباشرة والمراوغة الذكية، أولها اللجوء إلى وسائل الهرب المباشر، الذي يشوبه الكثير من عناصر التمويه. لكن، وعندما يفقد كل ذلك جدواه، وعندما تفشل القوى الذاتية، وتقفل أبواب التمويه، نرى تلك الحيوانات الضعيفة في أحيان أخرى كثيرة، تلجأ -وتحت متطلبات الرغبة في البحث عن مصادر الأمان من أجل البقاء- إلى صرف نظر من يطاردها عنها، بتوجيه نظره نحو فريسة أخرى، تجعلها تبدو في نظره أكثر شهوة وأسرع نيلاً، فتنجو بنفسها، غير مبالية بمصير الفرائس الأخرى.
باختصار هناك صراع أبدي من أجل البقاء بين الحيوانات، بل وحتى بين سائر الكائنات، ينتهي دوماً بانتصار الأصلح من بينها ممن يستطيع تكييف نفسه، أو بناء نظام مقاومة قادر على هزيمة عناصر فنائه التي تفرزها ظروف البيئة المحيطة به، بما يضمن توفير سبل الاستمرار في الحياة، له ولأجياله -من جنسه- القادمة من بعده.
الصراع ذاته تشهده المجتمعات البشرية، لكن ليس من أجل الاستمرار في العيش فحسب، وإنما في سياق تطبيقها لسياسات الدفاع عن المصالح، وتنفيذ استراتيجيات توسيع مناطق النفوذ. فالصراع بين الحيوانات الأقوى، يناظره ذلك الصراع بين الإمبراطوريات الكبرى، والذي ينتهي ببروز واحدة على حساب الأخرى. وعادة ما يكون المنتصر فيها، تلك الإمبراطورية التي اكتسبت عناصر القوة، مقابل تلك التي بدأت تدب في أوصالها عناصر الشيخوخة والوهن. مقاييس القوة والضعف هنا نسبية وتخضع لقوانين الزمان والمكان، وهو أمر أورده العالِم الإسلامي ابن خلدون، بشكل تفصيلي في كتابه الأكثر شهرة بين جميع مؤلفاته وهو “المقدمة”، واستفاد منها من أتوا بعده، بمن فيهم علماء غربيون في تفسير ظهور وصعود، وفيما بعد انهيار الدولة الإسلامية في مختلف حقباتها.
لسنا بحاجة إلى الغوص عميقاً في تاريخ تطور المجتمعات البشرية، فنظرة سريعة إلى التاريخ المعاصر تكفي كي تعطينا الدليل على صحة ذلك، فقد تهاوت الإمبراطوريات الاستعمارية واحدة تلو الأخرى خلال ثلاثة قرون، بسبب الصراع الذي دب فيما بينها من أجل اقتسام مناطق النفوذ والسيطرة، وخرجت بريطانيا وفرنسا منتصرتين، في نهاية الحرب الكونية الأولى، لكونهما الأقوى بينها جميعاً. لم يدم الأمر طويلاً، فقد أزاحت الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي، فرنسا وبريطانيا، كي يعيدا اقتسام مناطق النفوذ بينهما إثر انتهاء الحرب الكونية الثانية.
والتفتت العاصمتان، موسكو وواشنطن، كل حسب قوة عضلاته العسكرية والسياسية، كي تعيدا اقتسام العالم فيما بينهما، على حساب الدول الصغيرة، تماماً كما تفترس الحيوانات القوية طرائدها من تلك الضعيفة. ولجأت كل منهما إلى إنهاك الأخرى عبر ما أصبح يعرف “الحروب بالوكالة”، مستفيدتين بشكل مستقل ومغاير، من ذلك النهوض الوطني الذي أعقب تلك الحرب، المطالب باستقلال الدول المستعمرة “بفتح الراء”، عن القوى الجاثمة فوق صدورها. دون الانتقاص من التضحيات التي قدمتها شعوب العالم الثالث من أجل نيل حرياتها.
فلو نظرنا إلى المناطق الملتهبة اليوم في دول العالم الثالث، ومرة أخرى دون الاستهانة بدور العامل الوطني المحلي فيها، فسوف نكتشف أنها في الكثير من الأحيان، تصفيات لذيول مخلفات مرحلة الحرب الباردة بين المعسكرين الاشتراكي والرأسمالي، جرّاء سقوط الأول وتشظيه، وبسبب دبيب الوهن في جسد الثاني وتفاقم المشكلات الاقتصادية التي باتت تنهك قواه.
هذه المقدمة المقتضبة التي لم يكن هناك بد من سردها، تقودنا إلى تلك المواجهة المحتملة بين طهران وحلفائها من جهة، وواشنطن ومعسكرها الدولي من جهة أخرى، والتي كما يبدو أنها لن تأخذ، كما أشرنا في المقدمة، شكل الكمون والانقضاض المباغت، وإنما التطويق وإنهاك القوى. وهو ما بدأت واشنطن في التحضير له منذ ما يزيد على عقد من الزمان، وتحديداً في مطلع القرن الحالي، مستفيدة من الأجواء الدولية التي تولدت بعد الهجوم على البرجين في عقر دار الولايات المتحدة، وعرفت باسم “هجمات سبتمبر 2001”.
بدأت واشنطن حملتها لمطاردة إيران تحديداً برسم دائرة واسعة أطلقت عليها “ الدائرة الإسلامية”، ونصبت طهران عاصمة لما أطلقت عليه “الإرهاب الإسلامي”، ثم أخذت في تضييق تلك الدائرة، دون ان ترمي خارجها دولاً إسلامية أخرى. لابد هنا من لفت النظر إلى أن الدوائر التي يحددها الإنسان لتطويق غريمه أو منافسه، تختلف عن تلك التي ترسمها الحيوانات المفترسة، فالأولى، بخلاف الثانية، ليست ثنائية الأبعاد، وليست واحدة فقط، فهي متعددة الأبعاد، أولاً، وغاية في التنوع، مما يجعلها تشمل أكثر من دائرة واحدة، وفي الوقت ذاته أيضاً، بما يضمن لها التكامل بشكل متوازٍ غير متتابع.