طبعاً الحكومة هي التي تتحكم بالجمهور، هذه هي الإجابة التقليدية للسؤال الذي يقدمه عنوان مقال اليوم، حيث تعوّد الأفراد في المجتمع المحلي على أن توجيه التهم والمسؤولية جزافاً للحكومة، أو حتى مؤسسات الدولة وشخصياتها. ولكننا لا نجد من يتحدث عن التحولات المهمة التي طرأت على الجمهور منذ العام الماضي، ومثل هذه التحولات أهم بكثير من محاولة إسقاط النظام التي تمت مطلع العام نفسه.
ليست هذه مبالغة، لأن معادلة الصراع السياسي حالياً وخلال الفترة المقبلة تعتمد بشكل رئيس على السيطرة على الجمهور. وما هو الجمهور الذي نقصده هنا؟
الجمهور الذي نتحدث عنه، هو ذلك الجمهور الذي خرج في منتصف فبراير 2011 في ساحة الفاتح وأبدى وجهة نظره تجاه الأوضاع المتسارعة في البلاد آنذاك. فما الذي تغيّر على هذا الجمهور؟
بعيداً عن الفرضية التقليدية التي دائماً ما يتم الحديث حولها، وهي أن الحكومة قامت بحشد مئات الآلاف من المواطنين والمقيمين في ساحة الفاتح كردة فعل على أحداث تلك الفترة ومحاولة إسقاط النظام التي قادتها المعارضة الراديكالية حينها. نتحدث عن جمهور واجه صدمة تاريخية عندما شاهد مجموعة من القوى السياسية تحاول تغيير تركيبة القوة السياسية والتوازن الإثنو ـ طائفي لصالح فئات معينة تحمل أجندة معروفة. هذه الصدمة دفعت الجمهور بكل قوته وحماسته إلى لعب دور تاريخي مؤثر في تغيير اتجاهات الرأي العام، وقلب مسارات الصراع السياسي القائمة في ذروتها خلال فبراير ومارس 2011.
والسؤال هنا؛ هل استمرت هذه المعادلة، وتغيّر من يقود الجمهور نفسه طوال الفترة الماضية وصولاً للوقت الحالي؟
برصد اتجاهات الرأي العام وتحليل أبعادها خلال الفترة الماضية، يمكننا التعرف على أربع مراحل مرّت على المجتمع المحلي، وهي كالآتي:
ـ المرحلة الأولى: هي المرحلة التي تزامنت مع إعلان حالة السلامة الوطنية، وظهرت فيها أربع قضايا رئيسة، وهي الاستياء على تأخير معاقبة المتورطين في إثارة أحداث فبراير، وعدم محاسبة جميع المتورطين في هذه الأحداث، بالإضافة إلى رفض إشراك المعارضة الراديكالية في حوار التوافق الوطني الذي تم صيف 2011، ثم تشكيل لجنة تقصي الحقائق.
المهم في هذه المرحلة أن حالة الاستياء العام تكوّنت لدى الرأي العام المحلي، ولكن قيادة الاتجاهات كانت موجودة لدى الإعلاميين والسياسيين ورجال الدين. ونتيجة هذه المرحلة أن تركيز اتجاهات الجمهور تجاه مواجهة المعارضة الراديكالية بدأت بالتشتت.
ـ المرحلة الثانية: هي المرحلة التي بدأت بإعلان نتائج تقرير لجنة تقصي الحقائق واتسمت باستمرار قدرة قادة الرأي من الإعلاميين والسياسيين ورجال الدين السيطرة والتحكم والتأثير في اتجاهات الجمهور، رغم ظهور العديد من القضايا المهمة في هذه المرحلة مثل إعادة المفصولين، وتشكيل صندوق وطني للتعويضات، وإقرار التعويضات المالية للمتضررين من أحداث 2011. أنتجت هذه المرحلة فوضى في الآراء والمواقف تجاه مختلف القضايا السياسية، وكذلك تجاه سياسات الحكومة وأدائها، ويمكن وصف درجة الاحتجاج السياسي بالإحباط العام.
ـ المرحلة الثالثة: بدأت عندما تم إنهاء محاكم السلامة الوطنية، وإحالة قضايا 2011 إلى المحاكم المدنية العادية، وبعدها أثيرت قضايا مثل وجود مساعي لإقامة حوار وطني ثانٍ، وبدأ الجمهور لاحقاً يطالب بتسليح رجال الأمن لمواجهة الأعمال الإرهابية، وأيضاً ظهرت قضية المطالبات بإقالة وزيرة الثقافة بسبب ما وصف حينها من الجمهور نفسه بأنه «تجاوز للأعراف والدين».
تميّزت هذه المرحلة بتراجع كبير لدور قادة الرأي الذين كان لهم الدور الأبرز منذ الأحداث في تشكيل اتجاهات الجمهور من الكتّاب والإعلاميين، والسياسيين ورجال الدين. بالمقابل ظهرت مجموعة من الشخصيات الفوضوية وبعضها شخصيات كانت مغمورة أو مجهولة، وبدأت تمارس دور تشكيل اتجاهات الرأي العام، ومثال ذلك النفوذ الهائل الذي استطاعت عدة شخصيات وهمية في فضاء شبكات التواصل الاجتماعي أن تكتسبه سريعاً. أما النتيجة فإنها خطيرة طبعاً، لأن الجمهور بدأ ينتقل من مواجهة المعارضة الراديكالية إلى مواجهة الدولة، واللافت أن هذا الانتقال لم يكن تدريجياً بل كان سريعاً ومفاجئاً لدى الكثيرين. كذلك وصل الجمهور في هذه المرحلة إلى القدرة على الاحتجاج، ولكن هذه الاحتجاجات مازالت عشوائية، بمعنى أنها تقام بين مجموعات من الأفراد يربطهم التضامن الجماعي تجاه قضية ما أو المصالح والعلاقات الشخصية لا أكثر.
ـ المرحلة الرابعة: هي المرحلة التي يمر بها الجمهور الآن، ظهرت فيها بعض القضايا التي يتذكرها الجميع حالياً، مثل ظهور بيانات تمهل الحكومة فترة زمنية معينة لتصحيح أوضاع الدولة مقابل استمرار شرعيتها، وقضية إعادة السفير البحريني إلى العاصمة الإيرانية طهران، وأخيراً قضية منح الكنيسة الكاثوليكية قطعة أرض.
المرحلة الرابعة التي نمر فيها الآن هي الأخطر على الإطلاق لأنه من الصعوبة بمكان السيطرة على الجمهور أو التحكم في اتجاهاته، وبالتالي يكون الجمهور من دون قيادة، وهو ما يتيح المجال أمام أطراف عديدة داخلياً وخارجياً التحكم بالجمهور البحريني واتجاهاته ببساطة. أما على مستوى النتائج، فيمكننا رصد بدء حالة العداء للدولة ومؤسساتها وشخصياتها، ومن مظاهر ذلك قبول الجمهور وعدم اكتراثه عندما يتم التطاول على ثوابت الدولة.
حتى نلخص التحليل الطويل، فإن اتجاهات الجمهور البحريني كانت مسيطرة من قبل قادة الرأي من الإعلاميين والسياسيين ورجال الدين، وتراجع دور هؤلاء سريعاً لصالح شخصيات فوضوية مجهولة تنشط بشكل أساس عبر شبكات التواصل الاجتماعي، وانتهى الجمهور إلى حالة اللاقيادة وعدم السيطرة عليه الآن.
وإذا قمنا بتلخيص نتائج التحولات التي طرأت على الجمهور فإننا نبدأ من تشتيت تركيزه تجاه قضايا معينة لصالح قضايا أخرى أقل أهمية، ثم تعرّضه لحالة من الفوضى في الآراء والمواقف، وبعدها الانتقال من مواجهة المعارضة إلى مواجهة الدولة، والنتيجة الأخيرة هي بدء حالة العداء للدولة.