ربما يعتقد البعض أنه من المبكر الحكم على «الربيع العربي»؛ إذ لاتزال صورته النهائية غير مكتملة المعالم بما يكفي للتقويم والخروج باستنتاجات علمية من شأنها إعطاؤه ما يستحقه من إيجابيات، وكشف ما اعترى مسيرته من نواقص. لكن ما أفرزه «الربيع العربي» من حقائق على أرض الواقع العربي منذ أن هبت رياحه على المنطقة العربية، باتت تكفي لرسم المعالم الأولية لصوورة ذلك الربيع. أول تلك الحقائق وأكثرها أهمية هي حركة الجدل الفكري والسياسي التي فرضها ذلك «الربيع العربي» وتداعياته، إلى درجة استفزاز الذهن العربي الذي جمده إلى حد بعيد ذلك الركود الذي عم المنطقة لما يزيد على نصف قرن من تاريخها السياسي المعاصر، والذي كانت تقف وراءه مجموعة من العوامل، لعل أشدها تأثيراً من الناحية السلبية هي تلك الحالة القمعية التي سادت المنطقة العربية خلال تلك الفترة، فحجرت على ذلك الفكر أي شكل من أشكال الحركة التي كانت تواجه بأقسى العقوبات وأسوأ أشكال الانتقام الاجتماعي والجسدي. إضافة إلى حالة التبلد الذهني التي كشفت عنها تلك الرياح مجموعة من الأحداث العربية، خصوصاً تلك المتعلقة بالصراع العربي - الإسرائيلي، والتي نجم عنها مجموعة الإحباطات التي غرستها الهزائم المتكررة التي عرفتها حركة التحرر العربية المعاصرة في صلب ذلك التفكير، فتمظهرت في شكل موجة من الإحباط السياسي، انعكس في حالة التبلد الذهني التي نتحدث عنها. لا شك إن كان لنا أن نسجل أهم إيجابية لذلك الربيع فهي تحريك المياه الآسنة التي طوقت الفكر السياسي العربي وشلته عن الحركة، وحولته إلى ما يشبه الآلة التي تدور في حلقة أفقية تفتقد كل عناصر الحركة التي تبيح لها الصعود نحو الأعلى أو التقدم نحو الأمام. هنا لا بد من تقديم الشكر للظروف الموضوعية المحيطة بالمنطقة التي عرفت دولها الكثير من التحولات أولاً، وللأنظمة القائمة التي اجتاحتها أعاصير ذلك الربيع بفضل تردي الأوضاع في صفوف أجهزتها جراء فساد تلك الأجهزة أولاً وهرمها ثانياً. أدى كل ذلك موضوعياً إلى تفجير حركة تغيير بغض النظر عن اتجاهها. كان التغيير هو المطلب الموضوعي الذي أفرزته تلك الظروف المتردية. من هنا ربما يغالي البعض ويغالط البعض الآخر، بوعي أو دون وعي، عندما يرجع تلك التغييرات لأي من القوى السياسية العربية، بما فيها تلك التي حصدت ما زرعته تلك الظروف الموضوعية التي نتحدث عنها، وغذته عناصر التهالك التي نخرت ركائز تلك الأنظمة، كما جرت الإشارة لها. ثاني تلك الحقائق، وربما لا تقل أهمية من حيث الفعل والتأثير عن سابقتها، هي ضعف التيار السياسي المدني العربي. وهنا لا بد من وضع خط تحت تعبير «المدني»، كي لا نصفه بنعت «التقدمي» أو «الليبرالي»، كما يحلو للبعض إطلاقه عليه. والمقصود بالتيار السياسي «المدني»؛ هو كل تلك التيارات التي تقع خارج إطار قوى الحركات السياسية الدينية، بتشعباتها العقدية، وتشظياتها المذهبية من جهة، وغير مرتبط بأجهزة الدولة، وخاصة إداراتها الأمنية والعسكرية من جهة أخرى. فقد أثبتت تلك الفئتان؛ الدينية السياسية وأجهزة النظم القائمة أنهما الأكثر تنظيماً والأشد تأثيراً في مسار الشارع السياسي، ومن ثم قدرت على جس نبضه والتحكم في اتجاه حركته. هذا ما شاهدناه في أهم دولتين عربيتين شهدتا ولادة «الريع العربي» وهما تونس ومصر. فعلى مدى الفترة التي امتدت منذ اندلاع شرارة التمرد الشعبي حتى اللحظة التي حسمت فيها الأمور، لم نشهد بصمات غير بصمات تلك المؤسستين دون أن يعني ذلك الغياب التام للقوى الأخرى كيلا نجحفها حقها التاريخي، لكننا هنا نشخص، كما ذكرنا، القوى التي أثرت في ترجيح كفة الميزان وفي الاستفادة من نتائج اللحظات الحاسمة. ولعل الحالة المصرية، هي الأكثر وضوحاً من الحالات العربية الأخرى، فقد آلت حرب الانتخابات في معركتها النهائية إلى تنافس بين «جماعة الإخوان المسلمين»، ممثلة في مرشحها الرئاسي الفائز محمد مرسي، وممثل الأجهزة العسكرية والأمنية لنظام الرئيس المخلوع محمد حسني مبارك كما شخصها أحمد شفيق. وحتى بعد فوز الأول، وكما شهدنا في المراحل الأولى التي أعقبت تسلمه رئاسة الحكم، لم يكف عن «مغازلة» تلك الأجهزة، ولم يدخل في صدام علني مباشر معها إلا بعد أن رسخ، ولو على نحو سريع، دعائم حكمه، دون أن يعني ذلك قبول تلك الأجهزة بتلك النهايات. ولعل الأحداث المخلة بالأمن، وفي المقدمة منها حوادث صحراء سيناء هي الأكثر وضوحاً لتأكيد ما نقوله، في خضم كل تلك المعارك وما رافقها من أحداث، كان واضحاً هامشية ذلك التيار المدني وضمور حضوره الشعبي على ساحة الأحداث، فوجدناه يختار بين الحياد السلبي أحياناً والمشاركة الشكلية أحياناً أخرى، وجميعها علامات واضحة على حضوره الضعيف في ساحة الصراع الرئيسة. ثالث تلك الحقائق وهي خارجية وتكشف استمرار تأثير القوى الأجنبية على مسار الأحداث في المنطقة العربية؛ فقد أكدت الأحداث التي رافقت ذلك «الربيع» أن للأصابع الأجنبية الكثير من القوى الحليفة، ولا نقول الدمى، التي بوسعها تحريكها في اللحظات الحاسمة وعند المنعطفات الحادة. وجدنا ذلك واضحاً في ساحتين أساسيتين أخريين هما ليبيا وسوريا. ففي الحالة الليبية، كان للتدخل المباشر لقوات حلف «الناتو» وبالشكل المكثف الذي زجت فيه بنفسها في أتون المعركة، دور بارز في قلب موازين القوى لغير صالح نظام القذافي على أرض المعركة العسكرية، ثم جاء الدعم السياسي في المحافل الدولية من قبل الدول ذاتها كي يسارع من وتيرة ضمان الاعتراف الشرعي الدولي الذي كان من أطاح بالقذافي في أمس الحاجة له في تلك المرحلة الحرجة من تطور الصراع. المشهد ذاته يتكرر، ولكن من الزاوية السلبية في الساحة السورية، فتلكؤ دول «الناتو» على المستوى العسكري وتمسكها بموقف المشاهد غير المتدخل المباشر، هو في حد ذاته دليل آخر على ذلك الحضور الأجنبي في المشهد السياسي العربي، مع الأخذ بعين الاعتبار تعقيدات الوضع السوري واختلافه الجوهري عن شقيقه الليبي، لكن الاستنتاج النهائي يبقى ثابتاً وهو التأثير الكبير للقوى الأجنبية في معادلة الصراعات العربية الداخلية، يؤكد ذلك طغيان صورة الصراع بين كتلتين دوليتين، هما الحلف الصيني - الروسي من جهة، وتحالف دول الناتو من جهة ثانية على مشهد عمليات الساحة السورية، والاصطفاف الإقليمي الذي ترجمه ذلك الصراع عند حساب موازين القوى الفاعلة على أرض المعركة. ينبغي التحذير هنا من استنتاج تبسيطي مسطح يقترب من السذاجة عندما نحول القوى الداخلية السورية المتصارعة إلى مجرد أدوات يحركها أي من الطرفين المتصارعين، المطلوب هنا معالجة هذا الوضع من مدخل ديناميكي يرى قوى الصراع ويرصد معالم كل واحدة منها، ويحدد في ضوء كل ذلك ثقلها في موازين ذلك الصراع من خلال حضورها الداخلي وتحالفاتها الخارجية، وهذا الأخير هو الذي كشف الثقل الكبير المؤثر الذي يحظى به الحضور الأجنبي في مشهد الصراعات الداخلية العربية.
{{ article.visit_count }}