كان من الممكن اعتبار ما أتى به فلم “براءة المسلمين” من إساءة للرسول الكريم صلى الله عليه وسلم مجرد زلة شخصية قام بها فرد أمريكي الجنسية، دفعته أصوله الصهيونية، وليس اليهودية كي لا نظلم اليهود ونسيء لهم من دون قصد، إلى إفراغ حقده الدفين في مشاهد تسيء للإنسانية جمعاء قبل أن تسيء للرسول صلى الله عليه وسلم، لولا بعض الأحداث والظواهر الغربية، وردود الفعل التي رافقتها في العالمين العربي الإسلامي، التي يمكن رصد الأبرز فيها في النقاط التالية:1. انطلاق ردة الفعل من ليبيا، قبل سواها من الدول العربية، ووصول موجتها إلى احتلال السفارة الأمريكية هناك، وقتل أربعة من موظفيها على رأسهم السفير، وهو أمر يثير أكثر من علامة استفهام كبيرة. فكيف تسنى لمن هاجم السفارة أن يتجاوز نقاط أمنها الغاية في التعقيد والتطور، كي يصل إلى السفير، الذي بدا وكأنه في انتظارهم فاتحاً صدره لتلقي الرصاصات التي صرعته؟ هنا، بالإضافة إلى الجانب الأمني، هناك أيضاً البعد السياسي، فيصعب القبول بأن من اقتحم السفارة، إنما قام بذلك استجابة لردة فعل عفوية، مصدرها فقط الشعور بالإهانة مما جاء في ذاك الفلم الرديء. فليس هناك من يجهل ما يعنيه قتل سفير دولة أجنبية، وأن تكون تلك الدولة الولايات المتحدة. كما إن ليبيا ليست الدولة التي تحتضن أماكن إسلامية ذات مدلولات سياسية، كالكعبة الشريفة، أو الأزهر الشريف، كي تضطرها تلك الأماكن إلى أن تكون أول شرارات ردة الفعل وأعلى موجة فيها.2. ردة الفعل الأمريكية الرسمية الخجولة، بتعمد، التي جاءت على لسان أعلى شخصيتين في درجات هرم السياسة الخارجية الأمريكية الإداري، وهما الرئيس الأمريكي باراك أوباما، ووزيرة خارجيته هيلاري كلينتون. فبعد أن توارى أوباما وراء النظام القضائي الأمريكي الذي يبيح، كما أكد أوباما، إنتاج مثل تلك الأفلام الهابطة، ويحظر معاقبة من يقف وراءها بشكل غير مباشر، أو حتى مباشر، سارع إلى قذف المتظاهرين الذين توجهوا إلى السفارات الأمريكية بأقذع النعوت. لم يقف الأمر عند هذا الحد بل سارعت كلينتون كي تكيل، مستفيدة مما جاء على لسان رئيسها، اتهامات أخرى تذيلها بقائمة تطالب فيها معاقبة أولئك المتظاهرين، بعد أن برأت ساحة من أقدم على الفعل. تم كل ذلك في سياق بعيد كل البعد عن العفوية، وفي إطار شبه مرسوم يسعى إلى تأجيج المشاعر وسكب الزيت على نيرانها، كي تأتي الصورة على النحو الذي التي انتهت إليه من فوضى وانفلات. 3. إعلان المجلة الأسبوعية الفرنسية الساخرة “شارلي إبدو”، المتزامن مع الأحداث، بشكل مسبق عن “عزمها نشر رسوم كاريكاتورية للنبي محمد صلى الله عليه وسلم في عددها الذي سيصدر غداً الأربعاء”، وردة فعل رئيس الوزراء الفرنسي جون مارك آيرولت على ذلك المنحصرة في “رفضه أية مغالاة”، داعياً في فى البيان الصحفي الذي وزعه مكتبه يوم إعلان المجلة “الجميع إلى التحلي بالمسؤولية”، مستدركاً إسوة بقرينيه الأمريكيين بالقول إن “حرية التعبير تشكل أحد المبادئ الأساسية لجمهوريتنا، هذه الحرية تمارس في إطار القانون، وبإشراف المحاكم حتى تتم مراجعتها”، متشبثاً بأن “بلاده تطبق مبدأ العلمانية الذي يقوم على مبادئ التسامح واحترام القناعات الدينية”. وكما قرأنا بعد ذلك فقد نشرت تلك الصور البذيئة، ولم يتحرك مكتب رئيس الوزراء الفرنسي، رغم مشاهدته غليان الشارع الإسلامي في ردة فعله على الفلم الأمريكي الهابط.4. شلل ملفت للنظر أصاب المؤسسات الغربية كافة، ودون أي استثناء، الداعية إلى ضرورة الحوار الإيجابي بين الحضارات الأديان، ومعها تلك التي لا تكف عن “التنطح” للدفاع عن حقوق الإنسان ومشاعره ولجوءها إلى الصمت المطبق، وهي التي لا تتوانى عن رفع عقيرتها شاجبة ومنددة، وحينها تكون مواقفها صحيحة وتستحق الإشادة، باستدعاء شخص في أقصى أصقاع العالم، للتحقيق معه، أو لمنعه من القيام، بما يتفق ومعتقداته الفكرية، دينية كانت تلك المعتقدات كانت أم مدنية. صمت القبور ذلك يسقط العفوية من تلك الأفعال المشينة في الولايات المتحدة وفرنسا، ويثبت مكانها أخرى تثير علامات الاستفهام التي نتحدث عنها. كانت تلك المؤسسات ستمحو علامة الاستفهام تلك، لو أنها، على سبيل المثال، اكتفت ببيان خجول يعبر عن “امتعاضها” من تلك السلوكيات الهابطة ضد شخصية لها مكانتها العالمية مثل الرسول الكريم، وتستفز مشاعر كتلة سكانية بشرية، ليست أقلية، بل تستحوذ على ما يقرب من ثلث سكان الكرة الأرضية.5. الظروف السياسية القائمة في الشرق الأوسط، وهنا نصل إلى ما يمكن أن نطلق عليه “مربط الفرس”، والتي تموج بالتغييرات المحتملة التي، تجاوزت في بعض نتائجها، حسابات إدارات صنع القرار في العواصم الغربية، بما فيها تلك العاملة في واشنطن، الأمر الذي يستدعي من هذه الأخيرة، التي ليس في وسعها البقاء خارج تلك التوقعات في منطقة حيوية لمصالحها مثل منطقة الشرق الأوسط، إلى اتخاذ موقف، خاصة بعد أصبحت في أمس الحاجة إلى كسب بعض الوقت كي تتمكن من جديد، من أخذ زمام المبادرة، وإعادة رسم الخطط، بما يحفظ تلك المصالح، ويضع الأمور بين يديها مرة أخرى، إن هي أرادت استعادة مقعد السائق، بعد أن كادت أن تجد نفسها مسمرة فوق أحد كراسي المرافقين، وهو أمر تخشاه، وتتحاشى أن تجد نفسها مرغمة على القبول به.كل تلك الشواهد، تزيل من تفكيرنا القبول بعفوية تلك الأعمال المشينة، وتدفعنا، دون الوقوع كما قد يبدو، في فخ “نظرية المؤامرة” إلى المزيد من التمعن الذي يوصلنا إلى الأيادي الخفية الممسكة بالخيوط التي تحركها. فرفض “نظرية المؤامرة”، ينبغي أن يدفعنا إلى التدقيق لقراءة الخطط التي تخدمها تلك الأفعال، مهما بدت بسيطة وعفوية، ويشجعنا على قراءة استراتيجيات الدول العظمى تجاه المنطقة بشيء من العلمية، البعيدة عن ردود الفعل العفوية، كالتي شهدها المسرح العربي، إزاء تلك الأعمال الهابطة.في ضوء كل ذلك يمكننا التوجس من مشروع أمريكي قريب تم إنضاجه على نار هادئة، خلال السنتين الماضيتين في دوائر مؤسسات التخطيط الاستراتيجي للمنطقة، يرتكز على إحداث تحول نوعي في موازين القوى القائمة فيها، ويتجه نحو أهداف قابلة للتصويب من بين الأكثر تهيؤاً لها هي:1. إيران وملفها النووي، فربما أصبحت الظروف ناضجة اليوم، لتوجيه ضربة محدودة، لكنها موجعة لطهران، تحد من جموح هذه الأخيرة، وتجبرها على إعادة النظر، بتأنٍ، في مشروعاتها التي تجاوزت الحدود التي يمكن أن يقبل بها النظام الدولي الجديد، الذي تحاول واشنطن رسم معالمه للمنطقة، بما يبيح لهذه الأخيرة إحكام قبضتها عليها، بعد أن أرختها الأحداث الأخيرة.2. صحراء سيناء الملتهبة، بالإمعان في تجزئتها، فهي من أكثر المناطق العربية أهلية لذلك، بعد تلك الأحداث المتكررة التي شهدتها في الآونة الأخيرة، ومن ثم فهي ناضجة، من وجهة النظر الأمريكية، لإحداث تغيير مصاحب في الخارطة السياسية العربية، من أجل إحكام القبضة على الأوضاع في المنطقة، من خلال ممارسة المزيد من الضغوطات على جماعة الإخوان المسلمين، كي يتراجعوا عن النزعة الهجومية، في علاقتهم مع واشنطن، بعد نجاحهم في الوصول إلى الحكم في أكثر من بلد عربي، مثل مصر، وتونس.