تتجلّى النزعة المذهبية أو الفئوية ليس في مناصرة أبناء الطائفة فحسب بل في الاحتماء أيضاً بهم، أو بالأحرى الاستقواء بسطوتهم ونفوذهم، وأعتقد أن مرّد ذلك يعود إلى أن شعور المرء بوقوف أبناء طائفته خلفه صفاً واحداً مترّاصاً يجعله يشعر بالأمان، وهكذا نجد علاقة وطيدة بين حاجة الإنسان للأمن، وتعلّقه بما يعمِّق لديه هذا الشعور، بمن فيهم الطائفة وأتباعها.
إن هذا التعلّق الغريزي بالطائفة قد يتقوّى مع مرور الزمن بفضل تضافر العديد من العوامل، ومن ضمنها ضعف فاعليّة برامج التربية الوطنية في تحقيق أهدافها، والانفصام بين النظرية والواقع، كأن يقرأ المراهق في الكتب تنظيرات وأفكاراً رائعة وجذابة بشأن اللحمة الوطنية، والمساواة بين مختلف الفئات والطوائف، لكنه لا يجد لها تجسيداً فعلياً على أرض الواقع المعاش.
ويبدو أن أحد التداعيات المؤلمة لتعلّق المراهق أو الشاب بأبناء طائفته، وتمسّكه بشعاراتهم ومقولاتهم يتمثل في ردود الفعل الجماعية السلبية إزاء الإجراءات المتخذة بحق أحد أبناء الطائفة أو رموزها وحتى مريديها من الطوائف الأخرى، فما أن يتم الاعتداء مثلاً على محل تجاري أو مسجد أو أي كيان يرمز للطائفة من قريب أو بعيد حتى يتهافت أبناؤها للثأر بأنفسهم من المعتدين دون التمعّن في دوافع الاعتداء وملابساته، وما إذا كان حقيقياً أم وهمياً، ربما لأنهم يعتقدون في قرارة أنفسهم أن القوانين الوضعيّة لن تستطيع إنصافهم، وإرجاع «حقوقهم المسلوبة».
إننا إذن نشهد تفشِّي ظاهرة «العقل الطائفي الجمعي»، إن صح التعبير، والذي يعمل على توحيد صفوف الأفراد المنتمين للمذهب الواحد، وتقنين أفكارهم وسلوكياتهم، وشحذ هممهم باتجاه اتخاذ التدابير التي تحمي الطائفة من عسف الطوائف الأخرى أو الجهات المساندة لها، لذا تنشأ الحاجة الملحة من جانب الدولة لتعزيز «العقل الوطني الجمعي»، وتحويله إلى سور منيع ضد محاولات شق الصف الوطني، واختراق المجتمع على أساس المذهب أو الفئة أو العقيدة، ولا يمكن تبليط الأرضية المناسبة لنمو هذا العقل، وتجذّر المفاهيم الوطنية بين الناس، دون وجود رؤية شاملة تنطلق من طبيعة التغيّرات التي تحكم سيرورة الوعي الجمعي.