كنت مقتنعاً بوجود مؤامرة لاغتيال الرئيس الراحل ياسر عرفات، منذ أن زرت العاصمة الفرنسية في مطلع شهر نوفمبر 2004، للاطمئنان عليه بعد أن نقل إلى مستشفى ميرسي العسكري لمعالجته إثر تدهور مفاجئ في صحته بعد حصار واجهه في مبنى المقاطعة في رام الله لأكثر من عامين وتسعة أشهر.
ولم يكن اقتناعي هذا فقط وليد تحليل يرتكز إلى جملة مؤشرات تشير إلى وجود قرار إسرائيلي - أمريكي بالتخلص من رئيس منظمة التحرير الفلسطينية، وقد أعلن ذلك بوضوح أكثر من مسؤول إسرائيلي، وأكّد عليه الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش الابن في أكثر من تصريح له حول أن عرفات يشكّل عقبة بوجه ما كان يسمى بعملية السلام الفلسطينية - الإسرائيلية، بل كان أيضاً نتيجة معلومات تمّ تأكيدها خلال وجودي في فرنسا.
لقد استمعت يومها (بحضور الصديق جورج غالاواي النائب البريطاني الذي كانت تربطه بأبي عمار علاقة وثيقة تعود إلى عام 1975، حين أقام غالاواي لأشهر في كنف المقاومة الفلسطينية في محلة الفاكهاني في بيروت، والذي أصرّ أن نلتقي في باريس حين علم بنيتي الذهاب إليها)، إلى الدكتور ناصر القدوة ابن شقيقة عرفات ووزير خارجية فلسطين السابق يقول: “إن شفاء عرفات يحتاج إلى قرار سياسي.. وأن اتصالات دولية تجري مع جهات فاعلة في باريس وواشنطن للضغط على أرييل شارون لمعرفة نوع السم الذي دسّ للزعيم الفلسطيني ولتحديد نوع الدواء المضاد له، على غرار ما جرى لرئيس المكتب السياسي لحركة حماس الأخ خالد مشعل إثر طعنة مسمومة في عمّان على يد عناصر من الموساد حيث أصرّ الملك الأردني الراحل الحسين بن طلال على معرفة الدواء المضاد في صفقة مع تل أبيب شملت أيضاً الإفراج عن مؤسس حماس الشيخ الشهيد أحمد ياسين مقابل الإفراج عن عناصر المخابرات الإسرائيلية الذين ألقي القبض عليهم في الأردن إثر محاولة اغتيال مشعل.
ولقد بقيت أردّد هذه الرواية التي استمعنا إليها، جورج غالاواي وأنا، وسفير فلسطين الحالي في لبنان الأخ أشرف دبوّر الذي كان ملازماً على مدى ربع قرن لعرفات، في كل مقابلة إعلامية، أو مهرجان شعبي، أو لقاء سياسي، داعياً إلى التحقيق في وفاة الرئيس الشهيد انطلاقاً من هذه الرواية.
ولقد اغتنمت ظهوري، مع عدد من إخواني في المؤتمر القومي العربي المنعقد صيف 2009 في الخرطوم، في برنامج “حوار مفتوح” على قناة “الجزيرة” أجراه الإعلامي غسان بن جدو مع الرئيس السوداني المشير عمر حسن البشير لكي أكرّر الدعوة إلى فتح تحقيق عربي ودولي في وفاة أحد أركان نادي القمم العربية على مدى أكثر من ثلاثين عاماً، والذي لم يكلّف الرؤساء والملوك والأمراء العرب، عدا قلة قليلة منهم، أنفسهم عناء الاتصال به لدى حصاره الشهير في مقره الرئاسي في رام الله.
يومها صمت الرئيس البشير صمتاً معبّراً، كما لاحظ الملايين من مشاهدي البرنامج آنذاك.. ولم يجر بالطبع أي تحرك باتجاه التحقيق إلاّ بعد سنوات في مؤتمر حركة فتح الذي شكّل لجنة للتحقيق بهذه القضية الخطيرة والكبيرة.
يومها كنا نسمع أعذاراً غير مقنعة، كالقول مثلاً أن الظروف السياسية لا تسمح بفتح تحقيق لأن هذا قد يؤثر على المفاوضات الفلسطينية - الإسرائيلية، حيث هدّدت تل أبيب، ومعها واشنطن، بوقف تلك المفاوضات إذا جرى فتح هذا الملف من قبل القيادة الفلسطينية.
أمّا اليوم، وقد انفتح هذا الملف مجدداً بعدما اكتشف مختبر سويسري آثاراً لمادة “البولونيوم” النووية في بقايا الرئيس الشهيد، وهي مادة لا تملكها سوى الدول النووية، والكيان الصهيوني في مقدمتها، ودخلت المفاوضات طريقاً مسدوداً، فمن حقّنا أن ندعو إلى أن يرافق التحقيق المخبري، تحقيق قضائي ينطلق من رواية القدوة، ومن رواية طبيب عرفات الفلسطيني الدكتور أشرف الكردي الذي أثار شكوكاً حول وفاة عرفات قبل أن يتوفاه الله قبل أشهر.
من حقّنا أن نسأل الدكتور القدوة عن مصدر معلوماته، وأن يشمل التحقيق الرؤساء الذي جرى الاتصال بهم، وبينهم الرئيس الفرنسي الأسبق جاك شيراك الذي أبدى اهتماماً بهذا الأمر، كما يقول المطّلعون، وكذلك جورج بوش الابن نفسه في ضوء تصريحه الشامت الشهير لحظة الإعلان عن وفاة الزعيم الفلسطيني.
بل من حقّنا أن ندعو إلى استحضار كل التصريحات الإسرائيلية المتصلة بمصير عرفات قبل وفاته، وبعد هذه الوفاة، كما جملة الوقائع التي سبقت الوفاة وأبرزها تقدم المدرعات الصهيونية إلى مبنى المقاطعة ذاتها، قبل أشهر من الوفاة، وهدم أجزاء منه في استهداف واضح لعرفات المحاصر الذي كاد أن يقتل لولا خروج مسيرات هادرة غاضبة في رام الله وكل مدن فلسطين ومخيماتها في منتصف الليل تسعى لحماية عرفات.
من حقّنا أن نطالب القيادة الفلسطينية والقيادات العربية والإسلامية والدولية كافة أن تتحمل المسؤولية في كشف الحقيقة في واحدة من جرائم العصر من أجل محاكمة كل من يثبت تورطه فيها، وليتأكد الفلسطينيون والعرب وأحرار العالم أن مفجّر الثورة الفلسطينية المعاصرة قد قضى شهيداً.. شهيداً كما كان يردد أيام الحصار الذي كان يطوّقه في رام الله... كما في أيام حصار بيروت في مثل هذه الأيام قبل ثلاثين عاماً حيث كانت الطائرات الحربية الصهيونية، وهي أمريكية الصنع، تطارده من حيّ إلى حيّ، ومن مبنى إلى مبنى، ويكفي أن نتذكر هنا مجزرة بناية عكر في محلة الصنائع في بيروت التي هدّمتها قنبلة فراغية صهيونية وقتلت المئات من سكانها بعد لحظات من خروج عرفات، ذي الحسّ الأمني العالي، منها، حيث لم يكن ليبقى في مكان أكثر من مدّة محدودة جداً..
ولعلّها من الصدف النادرة، وخلال أمسية تكريمية للسفير دبوّر دعا إليها المنتدى القومي العربي في دار الندوة في بيروت، وقبل يوم واحد من نشر تحقيق قناة “الجزيرة” حول اغتيال عرفات، سردت الرواية التي سمعتها داعياً إلى كشف ملابسات هذه الجريمة الخطيرة.
إني أضع هذه الحقائق برسم أي تحقيق فلسطيني أو عربي أو دولي بهذه القضية، لأن جريمة بهذا الحجم لا يجوز أن يفلت مرتكبوها من العقاب.