عندما تقف المنطقة العربية أمام منعطف تاريخي ينم عن تغييرات نوعية تمس جوهر التركيبة السياسية كالذي تواجهه اليوم، وحين تطفو على سطح العلاقات العربية مثل هذه الخلافات الحادة كالتي نشهدها في وقتنا الحاضر، تبرز أمام ناظري من يؤمن بالوحدة العربية والمصير العربي المشترك علامات استفهام كبيرة تحمل الكثير من التحدي، لكنها تعود كي تتمحور جميعها حول سؤال واحد يقول: هل هناك ما يمكن أن نطلق عليه الأمة العربية أو حتى الكتلة العربية؟
كما أشرت يبرز هذا السؤال وقت الأزمات قبل الانفراجات، لذلك فهو سؤال قديم يتجدد، ونجد معالجات متكررة له، ربما تعود جذورها المعاصرة إلى ما ورد في كتابات مفكرين من أمثال ساطع الحصري، المولود في صنعاء اليمن في العام 1897 من أبويين سوريين، وله ما يزيد على خمسين مؤلفاً حول قضية القومية العربية، ويعتبر أحد مؤسسي الفكر القومي العربي الحديث. ومن أقواله كتلك التي وردت في كتابه الأكثر شهرة (العروبة أولاً)، «إنَّ الدعوات الإقليمية الانعزالية تعوق رصّ الدول العربية في جبهة موحَّدة معادية للإمبريالية، إنّي أعتقد أنَّ أوَّلَ ما يجب عمله لتحقيق الوحدة العربية في الأحوال الحاضرة، هو إيقاظ الشعور بالقومية، وبثّ الإيمان بوحدة هذه الأمة».
ويندرج في التصنيف ذاته آخرون من أمثال عبدالرحمن الكواكبي (1854 - 1902)، الذي قضى الشطر الأكبر من حياته منادياً العرب «بالنهوض والتقدم»، رابطاً ذلك بدعوات إصلاحية جريئة لتحرير العقول من الخرافات التي ألصقت حينها بالإسلام. وقد وصل به الأمر إلى الدعوة إلى «إقامة خلافة عربية على أنقاض الخلافة التركية وطالب العرب بالثورة على الأتراك». وللكواكبي الكثير من المقولات التي لم تكن ذات علاقة مباشرة بدعواته القومية العربية، لكنها تستحق الاستذكار اليوم من أمثال «تراكم الثروات المفرطة مولد للاستبداد، ومضر بأخلاق الأفراد». وأخرى مثل «الاستبداد أصل لكل فساد»، وأخيراً قوله «إن المستبد فرد عاجز، لا حول له ولا قوة إلا بأعوانه، أعداء العدل وأنصار الجور». وهي دعوات ماتزال صالحة لأن تكون شعارات سياسية تخاطب من يمارس الجور السياسي، ليس في نطاق الأنظمة الحاكمة فحسب، بل حتى في صفوف المعارضة المطالبة بالقضاء على مرض في أجساد السلطات دون أن تعي أنه متفش في جسمها هي الأخرى.
وأخيراً هناك زكي الأرسوزي وهو سوري الأصل من مواليد اللاذقية (1900 - 1968)، ويعتبر هو الآخر من بين أهم مؤسسي الفكر القومي العربي المعاصر. وقد نشر الأرسوزي الكثير من أفكاره في جريدة «العروبة» التي استخدمها للترويج لدعواته المنادية «بالعدالة وحق العربي بالحرية وإلغاء التميز بين الناس من كل شكل ونوع». ويعتبر الأرسوزي من أكثر المخلصين للفكر العربي والمؤمنين بفكرة القومية العربية.
قصدنا من سرد هذه الأسماء المختارة دون أن ننسى أن هناك الكثير غيرها من أمثال مؤسس حزب البعث العربي الاشتراكي ميشيل عفلق، حتى نصل إلى آخرين من أمثال جورج حبش، وناجي علوش من فلسطين، وأحمد الخطيب من الكويت، القول بأن جذور الفكر القومي العربي قديمة ومتواصلة، والكثير ممن نادوا بها، حرصوا من أمثال الكواكبي والحصري والأرسوزي، على أن يبرزوا ذلك الرابط الوثيق بين العرب كأمة، والإسلام كفكر، ولم يروا، كما يحاول البعض، حتى في وقتنا الحاضر، التركيز على التناقض غير القابل للتفاهم بين العروبة والإسلام.
رغم هذه الدعوات المتكررة والمتواصلة لما يزيد على القرن من الزمان، مازلنا نرى من مظاهر التفكك العربي، أكثر من نوازع التوحد العربي، رغم بروز الكثير من المؤسسات الحكومية وغير الحكومية التي تحمل الصفة العربية، وتمارس أنشطتها في نطاق كلي عربي، من أمثال جامعة الدول العربية، والمنظمة العربية للتربية والعلوم «الأليكسو»، بل وحتى الأحزاب المعارضة، شكلت هي الأخرى منظماته الحزبية القائمة على التوجه القومي العربي مثل «حزب البعث العربي الاشتراكي»، و»حركة القوميين العرب»، واللجنة العربية للأحزاب الشيوعية العربية.
لكننا بالمقابل، نرى أمام أعيننا، الشلل الذي تعاني منه تلك المؤسسات، فليس أدل من ذلك العجز الذي تعاني منه جامعة الدول العربية، من موقفها من الأزمة السورية، وقبولها بتخويل -طوعاً- أمين الأمم المتحدة السابق كوفي أنان ممثلاً لها في البحث عن مخرج لتلك الأزمة، بدلاً من اختيار شخصية عربية للقيام بمثل هذه المهمة.
يعود السؤال ملحاً: هل هناك ما يمكن أن نطلق عليه الأمة العربية أو حتى التكتل السياسي العربية؟
لو أخذنا بالمقاييس المعاصرة لتكون أمة، أو محفزات تبلور كتلة، لوجدنا الكثير من المقومات التي يمكن أن تشكل أرضاً صلبة من أجل تبلور كيان عربي صلب، ربما لا يصل إلى مستوى الأمة لكنه بكل تأكيد يبلغ درجة الكتلة السياسية، التي لا نراها اليوم على الصعيد العربي.
إذا كانت أول تلك العناصر هي اللغة، فهناك اللغة العربية، وهي لغة حية بالمعايير العالمية المعاصرة، وتملك مقومات بناء أمة متماسكة ناطقة بهذه اللغة التي تنغرس جذورها عميقاً في تاريخ هذه المنطقة العربية المحددة سياسياً، في أضيق نطاق لها، من المغرب غرباً حتى اليمن جنوباً.
وإذا ما أخذنا الأصول العرقية، كعامل من عوامل التوحد أو الانسجام، فسوف نجد أن الأصول العرقية، رغم تعددها في ذلك النطاق الجغرافي الذي حددناه، تلتقي جميعها، إلى حد بعيد في عرق واحد. فالكثير من الأصول العربية المنتشرة في البلدان العربية، تعود إلى جنوب الجزيرة العربية. بل شكل الإسلام في مراحل كثيرة من تاريخ هذه المنطقة، من خلال تفاعله مع اللغة العربية، عنصراً مهماً في إزالة بعض الفروقات غير الجوهرية بين قاطني هذه المنطقة، وسكانها.
وإذا ما رجعنا إلى الاقتصاد الموحد، الذي تضعه بعض النظريات التي تعالج تشكل الأمم، فلن نجد في اقتصادات الدول العربية، ما يبرر التناحرات التي تعصف بأي شكل من أشكال التوحد العربي. فمعظم الاقتصادات العربية القائمة، هي اقتصادات ريعية خارجية، تعتمد في جوهرها على سلعة واحدة أساسية هي النفط كما هو الحال في الخليج وشمال أفريقيا، والإنتاج البدائي في دول أخرى مثل السودان ومصر.
حتى الانتماء الديني، نجد أنه باستثناء أقليات مسيحية ويهودية نسبها ضئيلة، ينعم الإسلام بالغالبية العظمى، على الصعيد العربي العام، وعلى مستوى كل قطر عربي على حدة. هذا إذا تجاوزنا حقيقة في غاية الأهمية، وهي أن الديانات السماوية الثلاث: اليهودية، والمسيحية، والإسلام، إنما هبطت على أنبيائها في مناطق عربية هي فلسطين والجزيرة العربية. وتشكل فلسطين بؤرة مقدسة تلتقي عندها تلك الديانات الثلاث التي يعتنقها الغالبية الساحقة من العرب