ثلاثة أطراف هم من وجهت إليهم أصابع الاتهام، أو تبنوا مسؤولية، الانفجار الذي وقع يوم الأربعاء الماضي، الموافق 18 يوليو 2012، وأودى بحياة أعضاء “لجنة الأزمة” السورية وجرح آخرين معهم. بعض الجهات اتهمت الرئيس السوري بشار الأسد مباشرة، قائلة إنه اكتشف أن الأربعة يقودون مجموعة أخرى يتبوأ أفرادها مراتب عالية في مؤسسات الجيش وإدارات الدولة، وأن الأسد، لم يجد أمامه من خيار آخر سوى التخلص منهم، وفي أقرب فرصة ممكنة، وبهذه الطريقة المفجعة، بانياً خطته هذه، على أن الأنظار ستتجه نحو “جيش سوريا الحر” الذي سيجد أن من مصلحته، وكي يضاعف من رصيده الشعبي على المستوى الداخلي، وثقله السياسي على المستوى الدولي، أن يتبنى عملية ناجحة بهذا الحجم الكبير على الصعيدين النوعي والكمي. الجهة الثانية التي، أتهمت، ولكنها لم تنكر مسؤوليتها، بل على العكس من ذلك تبنت العملية وتبنتها بكل تفاصيلها الدقيقة، هي “جيش سوريا الحر “ الذي أكد أنه يقف وراء نسف مقر اجتماع “لجنة الأزمة” السورية، بعد أن نجح في تهريب المتفجرات التي استخدمت، عن طريق من يخدمون في مقر الاجتماع، وقام فريق آخر، تمت تهيئته بشكل منفصل ومسبق، بتنفيذ العملية. الجهة الثالثة، التي قيل إنها وراء العلمية، كانت فئة الشباب في “جيش سوريا الحر”، التي ظهر اسمها فجأة في عملية بهذا المستوى من الكفاءة العالية في الإعداد، والمهارة في التنفيذ، والدقة في اختيار الهدف.
إلا أنه وبغض النظر عن من هي الفئة، من بين تلك الجهات الثلاث التي خططت ودبرت، ونفذت العملية، فليس هناك ما يدعو للبحث عن ذلك لأن المحصلة النهائية، وفي ظل الظروف المحيطة بالوضع في سوريا، ستكون واحدة، وستكتشف الأطراف التي نفذت العملية أو تبنت مسؤوليتها، أنها، أي العملية، نقلت الصراع الدائر في سوريا إلى مرحلة متقدمة يصعب الرجوع عنها إلى الوراء، مهما حاولت أي من القوى الثلاث التي أشرنا لها، نظراً للانعكاسات التي سوف يتركها ذلك الانفجار على مسار الحياة السياسية السورية في المرحلة المقبلة. والمقصود بالمحصلة أن ثمرة تلك العملية ستقع ثمرة ناضجة في أحضان العسكر، بغض النظر عن الجهة المنفذة.
ولو بدأنا بالرواية الأولى، رغم كونها الأبعد عن الواقع، لكنها احتمال من الخطأ إبعاده عند قراءة مستقبل الحياة السياسية في سوريا في المرحلة المقبلة، فمدلولاتها هي وصول الصراعات الداخلية في أعلى مراتب الأجهزة الأمنية والمؤسسة العسكرية السورية، إلى درجة لم يعد أمام أي من أطرافها خيار للتفاهم، ومن ثم لجأ أحد الأطراف لحسم تلك الصراعات لصالحه، عبر التصفيات الجسدية للرموز القيادية للجناح الخصم. هذا يعني زيادة إحكام الفصيل المنتصر قبضته على نواصي الأمور، بعد أن تخلص من لم يعد يثق بهم، ولا يستطيع الاعتماد عليهم في معاركه القادمة. المحصلة النهائية حقنة جديدة يتلقاها ذلك الفصيل المنتصر، والذي هو في هذه الحالة الموالي للرئيس السوري بشار الأسد، تمده بفترة زمنية إضافية، حتى وإن كانت قصيرة، وربما غير مجدية، لكنها من وجهة نظر ذلك الفصيل، تسمح له بإعادة صفوفه، في حال رغبة النظام، حتى وإن كان الوقت لم يعد يسمح له بذلك، في شن هجوم جديد على قوات “جيش سوريا الحر”. ما هو مهم هنا أن السلطة تعود مرة أخرى في يد فئة الجناح المتصلب الموالي لبشار الأسد، داخل المؤسسة العسكرية، والتي هي من صلب النظام الحالي، ومن ثم فهي الابن الشرعي له، بعد أن خرجت من رحمه، وتربت في أحضانه، وتطورت كي تصبح العمود الفقري له.
الرواية الثانية تقول، إن “جيش سوريا الحر” هو صاحب العملية، وهو بدوره بادر إلى تبنيها، وسيطرت على إعلامه الخارجي والداخلي، واعتبرها ضربة موفقة سددها بإتقان في الوقت المحدد سياسياً، وضد أفراد تم اختيارهم بدقة على المستوى العسكري. طبيعة العملية تضع زمام المبادرة في أيدي الفصيل العسكري الأعلى رتبة في صفوف “جيش سوريا الحر” وتفسح في المجال أمام هذا الأخير كي يتقدم الصفوف والمواقع القيادية في نطاق التحالفات القائمة بين أطراف المعارضة السورية، التي ستجد نفسها بعد تلك العملية مضطرة للسير في دبر ذلك الفصيل، بغض النظر عن نواياها، بل وحتى عن الثقل الجماهيري الذي تنعم به. فالعملية، سواء نفذتها قيادة “جيش سوريا الحر”، بالاعتماد على قواها الذاتية، من خلال اختراق للمؤسسة الأمنية للنظام، أو عن طريق عناصرها بشكل مباشر، تؤهلها لأن تعزز من ثقلها داخل صفوف المعارضة، وتبيح لها أن تنال حصة الأسد عن تقاسم المغانم، وهو أمر غير مستبعد، نظراً لطبيعة الثورة السورية ضد نظام بشار الأسد أولاً، وبفضل تسارع وتيرتها التي لا تفسح في المجال فرصة للفرز المطلوب، على المستويين السياسي والتنظيمي ثانياً. إذ قبلنا بهذه الرواية، سنجدها تقودنا، شئنا أم أبينا نحو عرين المؤسسة العسكرية، وفي ظل موازين قوى لصالحها. وستجد القوى المدنية المعارضة نفسها، أنها بحاجة إلى بذل جهود تفوق طاقاتها الحالية، إن هي أرادت أن تقف في موقع الند في وجه “جيش سوريا الحر”.
نصل إلى الرواية الثالثة، وهي التي أشارت بأصابع المسؤولية، كي لا نقول التمويه، إلى من أطلقوا على أنفسهم شباب جيش سوريا الحر، وهم عنصر جديد، بمقياس الظهور الإعلامي المباشر، إذ تكفينا التسمية كي نقتنع بأننا مانزال نتحرك داخل الحظيرة العسكرية، ولم تمدنا أي من الروايات الثلاث، بما فيها هذه الثالثة، القدرة على تحرير أنفسنا من أسيجتها. فمن الطبيعي، أن يكون هؤلاء الشباب قد لجأوا إلى قيادات جيش سوريا الحر، من أجل الاستفادة من خبرتهم العسكرية أولاً، وعلاقاتهم السياسية ثانياً. ومن ثم فإن استحواذهم على أية مكاسب تحققها لهم هذه العملية هي محدودة سياسياً، وقصيرة المدى زمنياً. وهنا نجد أنفسنا مرة أخرى نتجه نحو المؤسسة العسكرية السورية، وتحديداً لفصيلها المنشق عن النظام، لكنه هو الآخر، وهو أمر طبيعي، قد تربى في أحضان تلك المؤسسة، ومن المبكر أن يزيل من تفكيره، وفي مثل هذا الوقت القصير، ثقافة تلك المؤسسة، وسلوكها، في حال انتصاره، بعد إسقاط نظام بشار الأسد. باختصار شديد، تقف الثورة السورية اليوم، وهي المختلفة بطبيعتها عن كل ثورات “الربيع العربي”، بما فيها مصر أو حتى ليبيا، أمام خيرات لا تحسد عليها، بل خيار واحد لا يوجد سواه، وهو انتقالها إلى يد العسكر، حتى وإن كان هؤلاء العسكر يقفون في صفوف الشعب، بعد أن انفصلوا عن منظمتهم الأم، لكنهم لم يقطعوا حبل سرتهم عنها.
هذا لا يحط من قدر الثورة السورية، ولا يقلل من حجم التضحيات الجسام التي قدمتها، لكن التاريخ له مقاييسه المختلفه، التي يحدد فيها مسارات الثورات، والتي ربما، في حالات كثيرة تكون قاسية، وفي حالات أخرى لا تكون واضحة إلا في مراحل متأخرة من حياة الثورات
{{ article.visit_count }}
970x90
{{ article.article_title }}
970x90