في القطار النفقي بلندن، سيلفت انتباهك إعلان من ضمن الإعلانات التي توضع دائماً على جانبي القطارات -التي يستخدمها ثلاثة ملايين شخص يومياً في بريطانيا للتنقل- إعلان يبرز صورة طفلين ومكتوب فيه التالي: 75 ألفاً من أطفالنا سيستيقظون في صبيحة يوم الكريسماس وهم دون مأوى!
يطلب الإعلان الذي وضعته شركة «شيلتر» المعنية بجمع مساعدات لتأمين معيشة الأطفال «الهوملس» غير المتوافر لهم سكن دائم ويضطرون للعيش في الشوارع والنوم ليلاً في الطرقات أو على أبواب الكنائس، يطلب الإعلان مساعدة الناس للتبرع بمبلغ قدره ثلاثة جنيهات إسترلينية (دينار وثمانمائة فلس) باعتبار أن هذا المبلغ بإمكانه تأمين موقع لطفل في أحد الملاجئ المنتشرة في لندن.
الغريب في الإعلان أن شركة «شيلتر» تقول فيه بأنها واجهت نفس هذا الوضع المعني بالأطفال من دون مأوى عندما تأسست في عام 1966، ولكننا الآن نحن في عام 2012 ونفس الوضع موجود!
صورة الأطفال المنشورة في الإعلان مؤثرة، وتدفعك لرفع الهاتف والتبرع بمبلغ الجنيهات الثلاثة عبر خدمة الخط الساخن، لكن في جانب آخر الإعلان بحد ذاته يجعلك تتساءل باستغراب، إذ كيف لبريطانيا العظمى، البلد التي تحرص على تأمين معيشة كل لاجئ لها، وكل متحصل على جنسيتها، وتأخذ الضرائب بنسب مخيفة ومرعبة بذريعة تأمين الخدمات للجميع، كيف يمكن أن يكون فيها 75 ألف طفل مشرد لا مأوى ولا سكن لهم؟!
المحررة في صحيفة «الصن» إيما كوكس أجرت تحقيقاً في الظاهرة وبينت أن الإحصائيات أوضحت أنه تم معالجة وضع 45 ألف مشرد العام الماضي إذ الرقم الحقيقي قبل سنوات كان 130 ألف مشرد في جميع أرجاء بريطانيا، وأنه تبقى الآن 75 ألف مشرد.
من ضمن الأسباب التي أدت لهذه الظاهرة هو تزايد عدد المهاجرين لبريطانيا، وقبول السلطات هناك بكثير من النازحين لها للبحث عن حياة أفضل (أو ربما أسوأ) من بلدانهم السابقة! إلا أن كثيراً من هذه الحالات تنتهي في الشارع نظراً لغلاء المعيشة ولارتفاع الأجور وقبل كل ذلك الضرائب التي تكسر ظهور الناس. لكن المشكلة أن من ضمن المشردين بريطانيين أيضاً وليسوا نازحين فقط.
أطالع الإعلان، وأعيد قراءة سطوره وأستغرب وجوده في بلد مثل بريطانيا يفترض أن تكون من أفضل الأمثلة للدول المتحضرة، باعتبار أنها الدولة العريقة في الممارسة الديمقراطية، وهي منبع حقوق الإنسان، ورافعة شعارات المساواة والعدالة الاجتماعية وحماية البشر! أستغرب من وجود هذا الإعلان في وقت تصدر فيه بريطانيا الاستشارات والأفكار الفلسفية للدول الأخرى بهدف تعريفها بأفضل الطرق لتطوير المجتمعات والحفاظ على حقوق الإنسان.
75 ألف طفل مشرد في بريطانيا، وضرائب تصل لاقتطاع 50% من مداخيل الناس الشهرية، وأغلب المواطنين والمقيمين يستخدمون وسائل المواصلات العامة لعدم قدرة الكثيرين على امتلاك سيارة خاصة بسبب السعر الخرافي للوقود ومبالغ المواقف الجنونية ومبالغ المخالفات المرورية التي لا ترحم، إضافة لتحول المجتمع البريطاني لخليط اجتماعي مبعثر «فسيفساء ملونة» تحت شعار «الدولة ذات الخليط الاجتماعي العالمي» وهو شعار تفاخر به الدولة لكن من يتمازج مع البريطانيين أنفسهم يحس بسخطهم وغضبهم خاصة وأنهم أصبحوا مزاحمين في معيشتهم من كثيرين يرون في بريطانيا بلد الفرص والمعجزات، يكفي أن من بين أغنى أول أربعين شخصاً في بريطانيا أكثر من 16 شخصاً غير بريطانيين. كل هذه المشاكل، وظاهرة الفقر على رأسها، والتي تسببت بوجود هذا العدد من المشردين الأطفال فقط كظاهرة غير متوقعة في بلد متحضر مثل بريطانيا، لا يمنع بريطانيا من الحديث «بدون خجل» عن دول أخرى تعيش فيها الشعوب أفضل من الشعب البريطاني، ولا توجد فيها هذه المشاكل ولا هذا العدد من المشردين ولا هذه النسبة المدفوعة من الضرائب على الدخول، ولا هذا التغيير الديموغرافي الخطير، لا يمنعها من الحديث عن هذه الدول بصيغة مطلعها أن «بريطانيا تعرب عن قلقها من الوضع هنا وهناك».
75 ألف طفل مشرد لن يجدوا مأوى لهم في يوم الكريسماس مثلما عبرت عن ذلك حملة شركة «شيلتر»، ومازالت بريطانيا تقول للدول الأخرى بأنها «قلقة عليهم»!
بريطانيا تحتاج أن تركز قلقها على داخلها، على مواطنيها الذين يعانون من الغلاء الجنوني ومشقة الحياة، أقلها لتقلق خلال الأيام القادمة على هؤلاء الأطفال الـ75 ألفاً المشردين الذين سيحتفلون بالكريسماس لكن سينامون بعدها في الشوارع أو على الأرصفة!