جملة مواقف تبرز في ذهني كلّما اقتربنا من يوم الثامن والعشرين من أيلول، يوم الانفصال المشؤوم للوحدة المصرية - السورية عام 1961، وهو بالمناسبة يوم رحيل القائد الكبير جمال عبدالناصر عام 1970، ويوم تحرير بيروت بعد أسبوعين من الاحتلال الإسرائيلي لها عام 1982، ويوم انطلاق انتفاضة الأقصى عام 2000.أول المواقف كانت للمراقب العام السابق لجماعة الإخوان المسلمين في سوريا الدكتور عصام العطار، والذي امتنع عن توقيع وثيقة الانفصال وقد وقعّها آنذاك عدد من أبرز الساسة السوريين تأييداً للحركة الانفصالية، وقد ازدادت أهمية امتناعه أنه جاء، رغم الخلاف المعروف بين “الإخوان” والرئيس الراحل جمال عبدالناصر.في أول اتصال هاتفي لي معه في مقر منفاه في ألمانيا قبل عامين وحين سألت العطار عن سبب موقفه آنذاك أجاب: “كيف تريدني أن أبارك حركة هدمت حلماً يسكن أبناء الأمة منذ قرون، إن خلافنا مع نظام الوحدة شيء، وتمسّكنا بالوحدة شيء آخر”.أما الموقف الثاني فقد عبّرت عنه الشخصية السياسية السورية البارزة الراحل رشدي الكيخيا، زعيم حزب الشعب السوري الليبرالي ذي الكتلة النيابية الأكبر في مجلس النواب السوري لسنوات عدة، وأحد زعماء حلب التاريخيين، والذي توفي عام 1987 في نيقوسيا “عاصمة قبرص” التي أقام فيها منفياً بعد سنوات من إقامته في بيروت.التقيت الكيخيا في أواخر السبعينات في فندق انتركونتينتال في بيروت حيث كان يقيم، وكانت تجمعه بوالدي صداقة متينة منذ أن جمعتهما الجمعية التأسيسية التي أقرّت الدستور السوري عام 1950، سألته عن سبب امتناعه عن التوقيع على وثيقة الانفصال، رغم أن بعض أقرب السياسيين إليه قد وقّع عليها.أجابني السياسي السوري البارز المعروف بنزاهته وصدقه، والذي “تقاعد في ذروة النفوذ” كما وصفته في مقال نشرته “السفير” يوم رحيله: “موقفنا من أخطاء نظام الوحدة وخطاياه معروف، لكن الوحدة العربية هي هدفنا الأسمى التي لن نتخلى عنها أيّاً تكن الاعتبارات، الأخطاء نصحّحها من داخل الوحدة وليس على حسابها”.وهنا سألته: “ورئاسة الجمهورية التي جاءت إليك على طبق من ذهب للمرة الثانية، فلماذا رفضتها أيضاً؟”.أجاب بترفّع وأنفة لا يداخلهما أي ندم: “لقد اعتذرت عام 1955 عن قبول ترشيحي لمنصب رئاسة الجمهورية لأنني لا أريد أن أكون واجهة لحكم العسكر وقد تمادوا في التدخل بالشؤون السياسية، واعتذرت عام 1961 لأنني لا أريد أن أكون رئيساً لجمهورية الانفصال، وأنا، ككل أبناء وطني وأمتي، وحدوي مهما كانت الظروف”.أما الموقف الثالث فقد شهدت عليه بعد ثلاثة أيام على حادثة الانفصال عام 1961، حين اصطحبني والدي “وأنا الفتى المتحمس للوحدة التي اغتالها الانفصاليون” إلى منزل سرّي كان يقيم فيه مؤسس البعث الراحل الأستاذ ميشيل عفلق في الاشرفية في بيروت، وكان الرجل مختبئاً إثر معلومات تلقاها المقربون منه عن نيّة أحد الأجهزة الأمنية السورية إبّان الوحدة اختطافه من بيروت مع تصاعد الخلاف بين البعث والقائد الراحل جمال عبدالناصر في أواخر الخمسينات.يومها سألت الرجل الهادئ الرصين الذي يحترم جلساءه حتى ولو كانوا في عمر الفتيان مثلي: “ما رأيك أستاذ بما جرى في سوريا قبل أيام؟” “وكنت اقصد الانفصال”، أجابني الرجل بسرعة، وهو البطيء عادة، وبحسم الواثق من رأيه: “إنه “أي الانفصال” طبعاً مؤامرة استعمارية ورجعية استغلت أخطاء الوحدة لضربها”.وعدّت لأسأل مؤسس البعث وأمينه العام: ماذا عن البعثيين، هل سيقاومون الانفصال “وكنت ألمح إلى بعض قادتهم ممن وقع على وثيقة الانفصال” وقال عفلق بنبرة قوية: على البعثيين أن يقاوموا الانفصال بل أن يتصدروا مقاومته، وأن لا يسجنوا أنفسهم في حساسيات الماضي وعقده.وماذا عن عبدالناصر وخلافكم معه، قال المفكر العربي: إنه قائد تاريخي كبير، والخلاف معه لا ينتقص من إقرارنا بقيادته ودوره، ليس على مستوى الأمة وإنما على مستوى العالم كله.أمام هذه المواقف الثلاثة الشديدة الحضور في ذاكرتي ووجداني، لا أنسى مشهداً رابعاً، هو بالفعل مشهد تاريخي حين وقف جمال عبدالناصر، رئيس الجمهورية العربية المتحدة، بعد أسبوع على الانفصال ليعلن إعادة قوات مظلية أرسلها من مصر وبقيادة المقدم جلال هريدي لمساعدة الجموع الشعبية والقطاعات العسكرية “المؤيدة للوحدة” المعارضة للانفصال، لاسيّما في حلب واللاذقية، ويقول كلمته الشهيرة “المهم أن تبقى سوريا”، وليوافق في الكلمة ذاتها على عودة سوريا إلى الجامعة العربية والأمم المتحدة رغم عدم اعترافه بحكومة الانفصال بانتظار أن يختار الشعب السوري الحكومة التي يريد.أستحضر هذه المواقف اليوم، وبعد أكثر من نصف قرن على بعضها، لكي أذكر رجالاً كباراً، من تيارات سياسية وعقائدية مختلفة، تجاوزوا الاعتبارات العابرة ليتمسكوا بالمبادئ الكبرى للأمة.. وفي طليعتها الوحدة العربية وعمادها دائماً هو الوحدة الوطنية في كل قطر.