يُقصد بالعقلانية، كما أوضحنا في العمود السابق، منهج أو أسلوب التفكير الذي يعتمد العقل أو المنطق مرتكزاً للتعاطي مع القضايا والمواقف اليومية، بعيداً ما أمكن عن الانفعالات والانفلاتات الطارئة؛ هنا يفترض الاستدراك أن التفكير المنطقي قد لا يكون بالضرورة عقلانياً، فإذا كان المرء حاضراً مثلاً في أحد المجالس أو الديوانيّات، وسمع كلاماً يعتقد مائة بالمائة أنه موجّه ضدّه شخصياً دون ذكر الاسم، فمن المنطقي، وهذا ما يحدث في أغلب الأحيان، أن يندفع منافحاً عن شخصه ومكانته وسمعته بين الحضور، إلا أن هذا التصرّف قد لا يكون بالضرورة عين العقل، مع أنه مشروع ومبرراته قائمة، فالحكمة والرزانة تفترض من الشخص موضع الهجوم أن يمسك أعصابه، ويقدِّر صاحب المجلس وروّاده، ويراعي حرمة الدار، ويتجاهل ما سمعه في تلك اللحظة وبإمكانه بحث الأمر لاحقاً على انفراد مع «الطرف المعتدي».
لكن الأمر ليس بهذه البساطة، كما يتصوّر القارئ الكريم، فليس المقصود بما ذُكر أعلاه أن رصانة المرء تستوجب تلقي الشتائم والمهاترات بابتسامةٍ عريضةٍ في كل مكانٍ وزمانٍ، فالموقف أو السياق الاجتماعي هو الذي يحدِّد مدى العقلانية التي يفترض أن تتسم بها ردود الأفعال، فنحن عقلانيون بالدرجة التي يمليها علينا الظرف المعني، وليس لأننا ملزمون أن نقابل دائماً الإساءة بالصمت المطبق، تيمناً بمقولة: «إذا كان الكلام من فضة فالسكوت من ذهب!».
إن العقلانية تتمثّل في القدرة على ضبط اللسان من الانفلات، وعدم الانجرار إلى المحظور والممقوت من الكلام بحجة أن الموقف «فرض علينا ذلك رغماً عن أنفنا»، والابتعاد عن المزايدات العقيمة التي لا تنتج سوى البغضاء والكراهية والحقد، والتحلِّي بالتسامح، والصبر على الآلام النفسية الدفينة، مراعاة لظروف الموقف الاجتماعي، ولمشاعر الأفراد، وصوناً لكرامتهم.
وفي هذا السياق، أخشى أن أقول إن جلّ الخلافات والنزاعات بين الفرقاء السياسيين ينتج ليس فقط بسبب الخلاف في الرأي بشأن لبّ الموضوع المركزي، وإنما بشأن كيفية التفكير في الخلاف، والطرق التقليدية التي نتوسّلها لحلّه، والتي نعتقد أنها موثوقة وآمنة، مع أن التجربة التاريخية، كما سنرى لاحقاً، تبيّن مدى عقم هذا النمط من التفكير، وعجزه عن حل المشكلات!
{{ article.visit_count }}
لكن الأمر ليس بهذه البساطة، كما يتصوّر القارئ الكريم، فليس المقصود بما ذُكر أعلاه أن رصانة المرء تستوجب تلقي الشتائم والمهاترات بابتسامةٍ عريضةٍ في كل مكانٍ وزمانٍ، فالموقف أو السياق الاجتماعي هو الذي يحدِّد مدى العقلانية التي يفترض أن تتسم بها ردود الأفعال، فنحن عقلانيون بالدرجة التي يمليها علينا الظرف المعني، وليس لأننا ملزمون أن نقابل دائماً الإساءة بالصمت المطبق، تيمناً بمقولة: «إذا كان الكلام من فضة فالسكوت من ذهب!».
إن العقلانية تتمثّل في القدرة على ضبط اللسان من الانفلات، وعدم الانجرار إلى المحظور والممقوت من الكلام بحجة أن الموقف «فرض علينا ذلك رغماً عن أنفنا»، والابتعاد عن المزايدات العقيمة التي لا تنتج سوى البغضاء والكراهية والحقد، والتحلِّي بالتسامح، والصبر على الآلام النفسية الدفينة، مراعاة لظروف الموقف الاجتماعي، ولمشاعر الأفراد، وصوناً لكرامتهم.
وفي هذا السياق، أخشى أن أقول إن جلّ الخلافات والنزاعات بين الفرقاء السياسيين ينتج ليس فقط بسبب الخلاف في الرأي بشأن لبّ الموضوع المركزي، وإنما بشأن كيفية التفكير في الخلاف، والطرق التقليدية التي نتوسّلها لحلّه، والتي نعتقد أنها موثوقة وآمنة، مع أن التجربة التاريخية، كما سنرى لاحقاً، تبيّن مدى عقم هذا النمط من التفكير، وعجزه عن حل المشكلات!