تحدثنا قوانين حركة الأجسام أن هناك الحالة التي يطلق عليها حركة القصور الذاتي “Moment of Inertia”، وهي تلك الحالة التي تفقد فيها تلك الأجسام عوامل الدفع الخارجية، وتعتمد كلية على عواملها الداخلية الذاتية ذات الطاقة المحدودة زمانياً ومكانياً. حينها تتلاشى رويداً رويداً كل عوامل الدفع وتبدأ الأجسام المتحركة بفعل عواملها تقاصر عجلتها الداخلية في خفض سرعتها استجابة لقصور عجلة الدفع الذاتية، إلى أن تصل إلى نقطة يتعذز فيها الحركة فتخلد، مرغمة، أو بالأحرى مستجيبة لقوانين القصور الذاتي إلى السكون.
لا تستطيع تلك الأجسام معاودة حركتها مرة أخرى ما لم يطرأ عليها عوامل جديدة، خارجية تلك العوامل أم داخلية، تمكنها من توليد عجلة حركة جديدة تنبثق عنها حالة جديدة تتخلق من خلالها “القدرة الميكانيكية” على مد تلك الأجسام بمقومات الحركة المطلوبة. في حالات معينة تتفاعل الداخلية الناجمة عن احتكاك عناصر داخلية مع تلك الخارجية، وتمد محصلة ذلك الاحتكاك الأجسام المعنية بالقدرة على توليد حركة جديدة، ربما تكون مختلفة تماماً عن تلك التي كانت تمارسها قبل الوصول إلى حالة السكون التي أشرنا لها.
بطبيعة الحال ليست جميع الحركات الجديدة إيجابية، ففي حالات معينة تقود المحصلة أجسامها إلى الانفجار والتشظي الذي يصل إلى حالة التلاشي من شكله القائم قبل أن يكتسب شكلاً آخر، خضوعاً لقوانين الطاقة التي تقول “إن الطاقة لا تموت ولا تستحدث، لكنها تنتقل من حالة إلى أخرى”.
المنطق ذاته والقوانين ذاتها تنطبق على حالة المجتمع البشري، وتمد قواه بالطاقة التي يحتاج لها في حركته، التي هي الأخرى تتوقف عندما تفقد القوة التي تمد “عجلة” حركتها بالعناصر التي تحتاجها من أجل مواصلة حركتها أو التوقف عنها، والتي بموجبها تتولد حركة المجتمع في السير إما نحو الأمام أو النكوص إلى الوراء أو التوقف التام والشلل الكامل عندما يفقد المجتمع المعني ما يمده بالقدرة على الحركة.
وإذا ما حصرنا قوى حركة المجتمع في قوتين رئيستين؛ الأولى هي السلطات الحاكمة الممسكة بزمام الأمور، والأخرى المعارضة التي لها مطالب بالتغيير، سنجد أن محصلة الصراع بين تلك القوتين هي التي تولد الحراك المجتمعي، وهي التي تقوده كي ينحاز نحو البرامج التي تقف وراءهما أي منهما. أخطر المراحل هنا عندما تصل حركة التغيير إلى حالة التوازن المشابهة لتلك التي تصل لها الأجسام. حينها يبدأ الشلل يدب في أوصال القوى المجتمعية ويفقد المجتمع، بصرف النظر عن النوايا، إلى حالة السكون التي أشرنا لها والتي تهدد بتدهوره بعد تخلفه.
هذه الحالة التي نتحدث عنها يمكن أن تعاني منها تلك القوتان مصدرها في صفوف المعارضة المنادية بالتغيير؛ فشل برامجها الوطنية في استقطاب القوى المجتمعية اللازمة لإحداث ذلك التغيير المطلوب، وتجييشها في حركة واسعة تؤدي إلى الوصول إلى النقطة الانقلابية النوعية التي تحدث ذلك التغيير. هذه النقطة الانقلابية هي محصلة تراكمات كمية عبر فترات زمنية محددة، وليست حدثاً فجائياً كما يبدو في أعين البعض منا. فعندما تفقد القوى المعارضة مولدات حركتها الذاتية تبدأ رحلتها نحو نقطة السكون التي نتحدث عنها بفعل العوامل المتفاعلة التالية:
1. التآكل الاجتماعي الذاتي؛ ويبدأ حين تفقد برامج المعارضة القدرة على مخاطبة رغبة قواها المجتمعية التي تدافع عن مصالحها على النحو السليم، وتقنعها بملاءمة المطالب التي ترفعها لتلك المصالح. حينها تبدأ تلك القوى المجتمعية في الانسحاب التدريجي، الذي ينطلق تماماً كما في حركة الأجسام بطيئاً، ثم تتزايد سرعته بفعل عجلة الدفع التي تقف وراءه، إلى أن يصل الأمر إلى الانفضاض الكلي لتلك القوى عن الجهة المعارضة التي استقطبتها في البداية.
يزداد الأمر سوءاً عندما تفشل تلك الجهة أو الجهات المعارضة في استقطاب دماء جديدة من أجيال شابة أو من قوى مجتمعية أخرى. محصلة ذلك التآكل فقدان مولدات الحركة ووصول الحراك المجتمعي إلى نقطة السكون التي نتحدث عنها قبل أن يبدأ مرحلة التآكل السلبي التي تفتت قواه وتحللها. بطبيعة الحال وطالما أن حركة المجتمع سرمدية فمن الطبيعي أن تتولد حالة جديدة تخلق قواها الذاتية التي تبدأ حركتها من جديد، والتي هي الأخرى ستفقد قدرتها على الحركة ما لم تتحاشَ السقوط في أخطاء الحركات التي سبقتها.
2. التناحر السياسي الداخلي؛ عندما تتحول محصلة حركة المعارضة، بفضل الإحباطات التي تعاني منها والناجم عن مخالفة تلك البرامج لقوانين التطور والارتقاء، من اتجاهها الخارجي المطالب بالإصلاح أو التغيير إلى آخر معاكس له تماماً ينكفئ نحو الداخل مفتشاً عن الأخطاء أو التقصير. وتجد المعارضة نفسها ودون وعي منها وبفضل قصور برامجها السياسية تناقص من حركتها قبل أن تصل إلى حالة السكون المشلول الذي نحذر منه. مصدر ذلك وسببه الأساسي هو العمى السياسي الذي يصيب نظر تلك المعارضة ويفقدها القدرة على الإبصار، ومن ثم رصد تفاعل شارعها السياسي الذي تخاطبه مع برامجها السياسية التي وضعتها.
وما لم تدرك تلك المعارضة، وبوعي ذاتي تام بداية الفصام بينها وبين ذلك الشارع، فمن الطبيعي أن يلجأ هذا الأخير إلى حالة الفطام الذاتي الذي يفصله عنها. في تلك اللحظة “الانقلابية” تبدأ المعارضة في رحلة فقدان الزخم الجماهيري الذي يولد “قدرتها” على الحركة نحو الأمام، وتدخل في مرحلة القصور الذاتي قبل أن تصل إلى لحظة السكون المشلول. بعد تلك اللحظة تنتقل المعارضة من مرحلة الصراع السياسي الجاد المؤثر إلى ما يشبه الحركة التكرارية الممقوتة، والتي تعيد نفسها في اتجاه أفقي يبدو حيوياً في نظر البعض، لكنه لا يتجاوز حالة عبثية بمقياس التقدم والتأثير، والذي يفترض أن يكونا مصاحبين له. وتبدأ المعارضة في التهام ذاتها بعد اجترار برامجها.
3. التراجع الاقتصادي؛ حيث يمارس التآكل الاجتماعي والتناحر السياسي دورهما في إرغام الاقتصاد على التراجع، بعد أن يشلا عجلة تحريكه نحو الأمام. تبدأ العملية في شكل تباطؤ يتنامى في اتجاه سلبي قبل أن يفقد الاقتصاد مقومات تطوره، فيصبح ضحية سهلة لأمراض اقتصادية تبدأ بتراجع معدلات النمو، قبل أن تدب في جسده أمراض أخرى أكثر سوءاً وخطورة على نموه، مثل التضخم والركود.
أخطر ما ينجم عن ذلك التراجع هو إفرازاته المجتمعية والانعكاسات السياسية المصاحبة لها أو المنبثقة عنها، والتي تقود في نهاية الأمر إلى إشاعة جو من الإحباط في صفوف القوى المجتمعية التي تمد المعارضة بالقدرة على الاستمرار والنمو. هنا تبدأ سرعة حركة قوى المجتمع بكاملها في التناقص قبل أن تصل إلى مرحلة الخمول التي نتحدث عنها، والتي تشل قوى المعارضة وتدخلها في نفق التآكل الاجتماعي والتناحر السياسي.
{{ article.article_title }}
{{ article.formatted_date }}