ارتفعت حواجب السيدة ستيفاني، القائم بأعمال السفير الأمريكي، في المقابلة التلفزيونية التي أجريتها معها بعد سؤالها إن كانت مقتنعة فعلاً أن أصحاب العمائم من أعضاء الوفاق -الذين ترى صورهم الآن على الشاشة- سيدعمون أسس الدولة المدنية في البحرين؟ كان ذلك مؤشراً للمفاجأة أو الاندهاش أو الاستغراب، وكان رد فعل الجمهور البحريني الذي شاهد الحلقة؛ هل فعلاً لا تدرك الولايات المتحدة الأمريكية طبيعة العلاقة بين هذه العمائم التي تدعمهم والدولة الدينية للولي الفقيه؟ اليوم نرى مؤشرات لتبدل الموقف الأمريكي تجاه عيسى قاسم تحديداً وتجاه المجلس العلمائي بشكل عام، وربما تجاه تيار هذا المجلس في ائتلاف الوفاق والممثل في علي سلمان وجماعته، وتبدل كفة الدعم لتيار وفاقي آخر بينه وبينه المجلس العلمائي مسافة. حقيقة لا يهمنا أن يكون تبدل موقف الولايات المتحدة الأمريكية من عيسى قاسم ومجموعته إدراكاً متأخراً لخطأ جسيم ارتكبته بحق أمنها ومصالحها وبحق البحرين وبحق حلفائها في المنطقة، أو كان اكتشافاً حديثاً، المهم أننا نرى بوادر نزع غطاء الحماية عنه في تصاعد. في الآونة الأخيرة كتب أكثر من مقال في الولايات لمتحدة الأمريكية ونشر أكثر من بحث أمريكي يتحدث عن عيسى قاسم تحديداً، وكلهم يطرحون تساؤلاً واحداً في نهاية المطاف “هل هذا الرجل إصلاحي؟ هل سيدعم الديمقراطية؟ هذا تشكيك في قناعة سابقة اقتضت بأن هذا الرجل معتدل وإصلاحي. على سبيل المثال؛ نشرت جريدة النيويورك تايمز مقالاً في الأول من مايو من هذا العام بعنوان “الأمير وآية الله”؛ تحدث فيه الكاتب عن إرهاب عيسى قاسم لمخالفيه وعن سيطرته على الوفاق وعن ارتباطه بإيران، مستشهداً بخطبه ومن موقعه الرسمي، وأجرى الكاتب عدة مقابلات مع شيعة رووا له ما تعرضوا له من إرهاب نتيجة تحديهم لعيسى قاسم. وفي 27 أبريل من هذا العام نشر موقع مجلس العلاقات الخارجية الأمريكي مقالاً آخر بعنوان “رجل إيران في البحرين”؛ نشر فيه عدة مقتطفات من خطب عيسى قاسم يمجد فيها إيران وثورتها وقائدها، ويمتدح حزب الله المصنف كحزب إرهابي في الولايات المتحدة الأمريكية، وعنوان المقال وحده يفي بالغرض!! وبتاريخ 14 أغسطس أي قبل شهرين فقط؛ نشر المعهد الأمريكي لدراسات السياسية الخارجية والدفاع بحثاً بعنوان “الإصلاح والثورة: الشيخ قاسم، الشيعة وإيران” يحث الولايات المتحدة على دعم الديمقراطية في البحرين، لكنه يحثها في الوقت ذاتها على إعادة النظر في عيسى قاسم تحديداً وعدم تقويته أو تقوية تياره لأن في ذلك تقوية لنفوذ إيران في المنطقة، ويبحث كثيراً في جذور نشأة عيسى قاسم ودراسته وميوله وخطابه وتحولاته السياسية منذ السبعينات إلى اليوم، ويصل إلى هذه الخلاصة التي أنقلها بالنص “إن انتقال القائد السياسي والديني الشيخ قاسم من كونه إصلاحياً معتدلاً إلى ثوري متحمس هو بمثابة تحذير واسع النطاق للولايات المتحدة الأمريكية حول طبيعة التغييرات في البحرين”. هذه بعض الآراء لجهات تستقي السياسة الخارجية للإدارة الأمريكية منها توجهاتها. ومثلها هناك مؤشرات بريطانية كثيرة تصل إلى نفس النتيجة؛ وهي ربط عيسى قاسم والوفاق بالعنف الجاري في البحرين، وقد نشرت جريدة الأيام في مايو من هذا العام تقريراً يؤكد وصول هذه القناعة لدى كل من الأوساط السياسية الأمريكية والبريطانية، وهذا نص الخبر الذي نشر في الأيام “أكد المصدر أن القيادي الوفاقي أجرى مشاورات مع قيادة جمعيته بشأن الطلب الأمريكي إصدار بيان يدين العنف والتخريب والحرق، إلا أنه عاد سريعاً إلى المسؤولين الأمريكان وأبلغهم رفض جمعيته إصدار بيان في الوقت الراهن يدين العنف والحرق”. من جهة أخرى، لوحظ تردد قيادات وفاقية على مقر وزارة الخارجية البريطانة، وقال المصدر إن قيادات وفاقية أجرت لقاءات في لندن مع قسم الخليج في وزارة الخارجية البريطانية، وكانت تسعى أن تلتقي مع مسؤولين دبلوماسيين كبار، إلا أنها لم تتمكن من ذلك، إذ إن المسؤولين البريطانيين وجهوا للوفاق ذات الطلب الأمريكي بشأن إصدار بيان وفاقي يدين العنف ويستنكر أعمال الحرق والتخريب، خصوصاً بعد فتوى (اسحقوهم) التي أصدرها المرجع الديني والسياسي للوفاق عيسى قاسم” انتهى. الخلاصة تؤكد أن القناعة تزداد حدة تلك التي تربط بين عيسى قاسم وإيران، وتلك التي تربط بينه وبين العنف الجاري في البحرين، وكما قلت في بداية المقال أؤكد مرة أخرى أنه سواء كان ذلك اكتشاف جديد أم إعادة تقييم فالنتيجة واحدة وهي ما سعينا لإثباته منذ 14 فبراير إلى اليوم. فمنذ اليوم الأول ونحن نؤكد أن مملكة البحرين، حكماً وشعباً، ليست لديهم مشكلة مع الإصلاح السياسي وتطور صلاحيات وإرادة الشعب وزيادة مساحته في صناعة القرار وإدارة الدولة، وليس هناك من يعترض على تأطير الصلاحيات الملكية دستورياً بما فينا جلالة الملك وولي عهده، كما أنه ليست لدينا مشكلة حتى بالاستعانة بالدول ذات الخبرة في الممارسة الديمقراطية، إنما شتان بين استراتيجية دعم الولايات المتحدة الأمريكية للديمقراطية وبين استراتيجيتها لتمكين المجموعات (الإثنية) أو المجموعات (المذهبية) أو المجموعات (الطائفية)، فذلك من شأنه زيادة حدة التوترات وإشاعة الاضطراب وعدم الاستقرار في المنطقة؛ إذ يعتبر ذلك الدعم تدخلاً في شأن غاية في الحساسية، وتعد أي مجموعات إثنية أو طائفية أو مذهبية تستعين بهذا الدعم خائنة لوطنها، وهذا عرف عالمي إنساني لا بحريني فحسب، تماماً لو استعانت المجموعات الإثنية الأمريكية ذات الأصول الأوروبية بروسيا مثلاً للضغط على الإدارة الأمريكية لتحقيق (طلباتها). وفي مجتمعات شرقية كمجتمعاتنا الدين و«الأصول العرقية» مازالت محركات اجتماعية فاعلة يعد العبث في ترتيبات النسيج الاجتماعي عبثاً في الأمن والاستقرار، وفي العراق وليبيا مثال صارخ حي لما نتحدث عنه، وقد دفعت الولايات المتحدة ثمن هذا العبث في أفدح صوره، إن النتيجة هي بيئة لا يمكن أن تنمو فيها أي ديمقراطية. فما بالك حين تدعم الولايات المتحدة الأمريكية مجموعات راديكالية تميل للعنف وللإرهاب؟ وما بالك حين تدعم الولايات المتحدة الأمريكية مجموعات مرتبطة بإيران ارتباطاً عقائدياً وسياسياً؟ تلك استراتيجية لا تتعارض وتتناقض وتتضارب مع أي سمة من سمات الديمقراطية فحسب؛ بل هي استراتيجية تضرب المصالح الأمريكية في مقتل، وهذا الذي فعلته الولايات المتحدة الأمريكية في البحرين.
{{ article.article_title }}
{{ article.formatted_date }}