وحدها الصدفة كانت وراء اللقاء الذي تم مؤخراً بيني وبين أحد زملاء الدراسة في المراحل المبكرة من التعليم، لم يكن هناك من مجال لتحاشي ذكريات أيام الدراسة بما ضمت من مدرسين ومقررات، فوجدنا أن كثيراً من أولئك المدرسين كانوا عرباً جاؤوا من مصر ولبنان وسوريا، بل وحتى فلسطين، وكانت المناهج المدرسية خصوصاً التاريخ والجغرافيا تتحدث عنا نحن كعرب وليس كخليجيين أو كبحرينيين فقط، قبل أن تتحدث عن تاريخ وجغرافيا كل دولة عربية على حدة.
كانت الأناشيد التي نحفظها عن ظهر قلب هي التي تقول “بلاد العرب أوطاني وكل العرب أخواني”.. إلخ، أما في المرحلة الجامعية، ونظراً لكون المرحلة الثانوية هي نهاية المراحل التعليمية في الدول الخليجية حتى نهاية الستينات، فقد كان كثيرون منا يرحلون في طلب المزيد من التحصيل العلمي في بلدان عربية كانت تزخر بجامعاتها، وخاصة مصر والعراق وسوريا إضافة إلى لبنان حيث الجامعة الأمريكية.
استغرقنا استرجاع تفاصيل تلك الذكريات الجميلة الكثير من الوقت، فلم يكن هناك من مناص من أن نلج دهاليز الوضع السياسي العربي، فوجدنا أنفسنا أمام صورة الخارطة العربية الممزقة اليوم على نحو أسوأ مما كانت عليه خلال الحقب الاستعمارية دون أن يبرئ ذلك قوى الاستعمار الأوروبي من مسؤوليتها التاريخية في تمزيق أوصال الجسد العربي، بل وبتر بعض أعضائه كما حصل في فلسطين ولواء الإسكندرون.
تغيرت الصورة اليوم عما كانت عليه بالأمس الذي كنا نتحدث عنه، وعلى وجه الخصوص في مجال التربية والتعليم، حيث باتت أوضاع التعليم الرسمي الحالية والتركيز هنا على مناهج اللغات والتاريخ والجغرافيا والتربية الإسلامية على النحو التالي:
1. الانطلاق بوعي أو دون وعي وكأن الواقع العربي المجزأ هو حالة طبيعية ينبغي القبول بها، وليس هناك ما يستدعي العمل من أجل تغييرها، بل ربما وصل الأمر في بعض المناهج إلى تشجيع التلامذة على تكريسها، ليس نظرياً في ذهنه فحسب، بل عملياً في سلوكه أيضاً. وانعكس ذلك حتى على برامج رحلات طلب العمل خارج المنطقة العربية التي جاء معظمها إلا فيما ندر في جامعات أجنبية كان البعض منها يحمل نزعة معادية لكل ما هو عربي. حتى القضية الفلسطينية، والتي كانت في يوم من الأيام من بين أهم عناصر زرع بذرة التوحيد في أذهان التلامذة العرب أصبحت اليوم تعالج وبشكل مقصود بطبيعة الحال من منطلقات دينية محضة. ليس الاعتراض هنا على إبراز البعد الديني فيها بقدر ما هو الإشارة إلى إخفاء البعد العربي في معالجة موادها.
2. الإسهاب في تدريس التاريخ الوطني المحدود على حساب ذلك القومي الشامل، حتى كادت حصة هذا الأخير أن تتلاشى لصالح الأول. فأصبح الطالب العربي ينهي المرحلة الثانوية وهو يكاد لا يعرف أي شيء يستحق الذكر عن تاريخ دولة عربية أخرى باستثناء اسمها ولون علمها وربما موقعها الجغرافي.
يترافق ذلك مع طمس كل ما هو مشترك بين الدول العربية، كما كان الأمر عليه في السابق. قاد كل ذلك إلى أن يتحول التاريخ العربي إلى جزء من التاريخ العالمي، بل ربما نجد هذا الأخير يحظى بعناية تفوق الأول، خصوصاً في المراحل التي تسبق نيل الدول العربية استقلالها، حيث يتطلب الأمر الحديث عن بعض الجوانب التي تمس تاريخ الدول الاستعمارية وتفسر أسباب قدومها إلى الدولة المعنية بعد بتر تاريخ هذه الدولة من جسده العربي.
3. الإغراق في المذهبية وحشوها بشكل تفصيلي غير مبرر علمياً في مناهج التربية الإسلامية وطرق تدريسها على حساب النظرة التوحيدية تحت الراية الإسلامية الشاملة، ومس ذلك بعض العبادات وطرق تأديتها. فتحولت المواد الدينية إلى جزر من المذاهب التي تمزق الفكر الإسلامي التوحيدي، بعد نزع البعد العربي عنه والذي كان يجري إبرازه في حقبة الستينات من القرن الماضي. وأمعن البعض في هذا التوجه المذهبي الضيق إلى درجة التشكيك في صحة المذاهب الأخرى بعد الطعن في إسلام من ينتمي لها. هذا على مستوى الدين الواحد، أما المدارس التي تتبع الأديان الأخرى، فقد أصبح الأمر فيها أكثر سوءاً ورداءة عندما نقوّم برامج التربية الدينية من منطلقات قومية صرفة.
4. تهميش دور مؤسسات المجتمع المدني، الحكومية وغير الحكومية العربية، وفي المقدمة منها المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم (الأليكسو)، التي باتت دائرة حركتها ضيقة ودورها محدوداً بعد أن قلصت موازناتها مقارنة بالسابق، عندما تقاس الأمور نسبياً بين تلك الموازنات المرصودة وتلك النفقات المطلوبة. لقد فقدت تلك المؤسسات بفضل ذلك التقتير غير المبرر كثيراً من أدوارها التوحيدية، وتحولت اليوم إلى هياكل إدارية تستنزف الكثير من الموارد المالية والبشرية دون أن يحقق ذلك المردود المتوخى منه والأهداف التي تقف وراءه. الأسوأ من ذلك هو تجاوز المحيط العربي بعد إهماله إلى دوائر أخرى عالمية والمساهمة في تحمل نسبة لا يستهان بها من أكلاف موازناتها مثل “اليونيسكو” وإسلامية مثل “الإسيسكو” بشكل مقصود ومخطط، مما أدى إلى إضعاف الذراع العربية لصالح تلك غير العربية.
5. إهمال العمل العربي المشترك في التعليم العالي الذي أصبح بعد إنشاء الجامعات الوطنية شبه خامل وغير ذي جدوى ولا يحظى بالاهتمام الذي يستحقه، والذي من شأنه، فيما لو أعطي بعضاً من ذلك الاهتمام الذي ننشده، لأصبح من أهم الأعمدة التي يمكن أن يرتكز عليها العمل التعليمي العربي المشترك، بما في ذلك المناهج التعليمية للمراحل الجامعية التي أصبحت هي الأخرى مغرقة في التفاصيل الوطنية على حساب تلك القومية.
تأسيساً على كل ذلك ينبغي الالتفات إلى التعليم في البلاد العربية، وعلى وجه التحديد في المراحل المبكرة منه والعمل من أجل استعادة مكوناته القومية التي يحتاج لها من أجل بناء قاعدة ذهنية قومية.
ليس المقصود هنا التضحية بالوطني على مذبح ما هو قومي، بقدر ما العمل على الوصول إلى المعادلة الصحيحة التي تضع كلاً منهما في خانته الصحيحة، وتوليه الاهتمام الذي يستحقه وترصد له الموازنة التي يحتاج لها وتنتج المقررات التي يتطلبها.
الأمر ذاته عند الحديث عن التربية الدينية؛ فهي الأخرى بحاجة إلى مثل تلك المعادلة التي توثق عرى التكامل بين الاثنين، فتبرز وتعمق تلك العلاقة التي يتكامل فيها الإيمان الديني بالوعي العربي، ويتجسدان في سلوك ناضج يلتزم بالقيم الدينية الكريمة دون التفريط بالمسؤوليات القومية الملحة.
وأخيراً لا تقع مسؤولية إنجاز هذه المهمة المعقدة على الحكومات العربية وحدها، فهناك أيضاً التعليم الخاص والذي ليس في وضع أفضل من التعليم الحكومي عندما يتعلق الأمر بحل المعادلة التي نتحدث عنها.
المسؤولية مشتركة إن أردنا أن نتمسك بديننا ولا نفرط في مسؤولياتنا الوطنية ولا نهمل التزاماتنا القومية.
{{ article.visit_count }}
كانت الأناشيد التي نحفظها عن ظهر قلب هي التي تقول “بلاد العرب أوطاني وكل العرب أخواني”.. إلخ، أما في المرحلة الجامعية، ونظراً لكون المرحلة الثانوية هي نهاية المراحل التعليمية في الدول الخليجية حتى نهاية الستينات، فقد كان كثيرون منا يرحلون في طلب المزيد من التحصيل العلمي في بلدان عربية كانت تزخر بجامعاتها، وخاصة مصر والعراق وسوريا إضافة إلى لبنان حيث الجامعة الأمريكية.
استغرقنا استرجاع تفاصيل تلك الذكريات الجميلة الكثير من الوقت، فلم يكن هناك من مناص من أن نلج دهاليز الوضع السياسي العربي، فوجدنا أنفسنا أمام صورة الخارطة العربية الممزقة اليوم على نحو أسوأ مما كانت عليه خلال الحقب الاستعمارية دون أن يبرئ ذلك قوى الاستعمار الأوروبي من مسؤوليتها التاريخية في تمزيق أوصال الجسد العربي، بل وبتر بعض أعضائه كما حصل في فلسطين ولواء الإسكندرون.
تغيرت الصورة اليوم عما كانت عليه بالأمس الذي كنا نتحدث عنه، وعلى وجه الخصوص في مجال التربية والتعليم، حيث باتت أوضاع التعليم الرسمي الحالية والتركيز هنا على مناهج اللغات والتاريخ والجغرافيا والتربية الإسلامية على النحو التالي:
1. الانطلاق بوعي أو دون وعي وكأن الواقع العربي المجزأ هو حالة طبيعية ينبغي القبول بها، وليس هناك ما يستدعي العمل من أجل تغييرها، بل ربما وصل الأمر في بعض المناهج إلى تشجيع التلامذة على تكريسها، ليس نظرياً في ذهنه فحسب، بل عملياً في سلوكه أيضاً. وانعكس ذلك حتى على برامج رحلات طلب العمل خارج المنطقة العربية التي جاء معظمها إلا فيما ندر في جامعات أجنبية كان البعض منها يحمل نزعة معادية لكل ما هو عربي. حتى القضية الفلسطينية، والتي كانت في يوم من الأيام من بين أهم عناصر زرع بذرة التوحيد في أذهان التلامذة العرب أصبحت اليوم تعالج وبشكل مقصود بطبيعة الحال من منطلقات دينية محضة. ليس الاعتراض هنا على إبراز البعد الديني فيها بقدر ما هو الإشارة إلى إخفاء البعد العربي في معالجة موادها.
2. الإسهاب في تدريس التاريخ الوطني المحدود على حساب ذلك القومي الشامل، حتى كادت حصة هذا الأخير أن تتلاشى لصالح الأول. فأصبح الطالب العربي ينهي المرحلة الثانوية وهو يكاد لا يعرف أي شيء يستحق الذكر عن تاريخ دولة عربية أخرى باستثناء اسمها ولون علمها وربما موقعها الجغرافي.
يترافق ذلك مع طمس كل ما هو مشترك بين الدول العربية، كما كان الأمر عليه في السابق. قاد كل ذلك إلى أن يتحول التاريخ العربي إلى جزء من التاريخ العالمي، بل ربما نجد هذا الأخير يحظى بعناية تفوق الأول، خصوصاً في المراحل التي تسبق نيل الدول العربية استقلالها، حيث يتطلب الأمر الحديث عن بعض الجوانب التي تمس تاريخ الدول الاستعمارية وتفسر أسباب قدومها إلى الدولة المعنية بعد بتر تاريخ هذه الدولة من جسده العربي.
3. الإغراق في المذهبية وحشوها بشكل تفصيلي غير مبرر علمياً في مناهج التربية الإسلامية وطرق تدريسها على حساب النظرة التوحيدية تحت الراية الإسلامية الشاملة، ومس ذلك بعض العبادات وطرق تأديتها. فتحولت المواد الدينية إلى جزر من المذاهب التي تمزق الفكر الإسلامي التوحيدي، بعد نزع البعد العربي عنه والذي كان يجري إبرازه في حقبة الستينات من القرن الماضي. وأمعن البعض في هذا التوجه المذهبي الضيق إلى درجة التشكيك في صحة المذاهب الأخرى بعد الطعن في إسلام من ينتمي لها. هذا على مستوى الدين الواحد، أما المدارس التي تتبع الأديان الأخرى، فقد أصبح الأمر فيها أكثر سوءاً ورداءة عندما نقوّم برامج التربية الدينية من منطلقات قومية صرفة.
4. تهميش دور مؤسسات المجتمع المدني، الحكومية وغير الحكومية العربية، وفي المقدمة منها المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم (الأليكسو)، التي باتت دائرة حركتها ضيقة ودورها محدوداً بعد أن قلصت موازناتها مقارنة بالسابق، عندما تقاس الأمور نسبياً بين تلك الموازنات المرصودة وتلك النفقات المطلوبة. لقد فقدت تلك المؤسسات بفضل ذلك التقتير غير المبرر كثيراً من أدوارها التوحيدية، وتحولت اليوم إلى هياكل إدارية تستنزف الكثير من الموارد المالية والبشرية دون أن يحقق ذلك المردود المتوخى منه والأهداف التي تقف وراءه. الأسوأ من ذلك هو تجاوز المحيط العربي بعد إهماله إلى دوائر أخرى عالمية والمساهمة في تحمل نسبة لا يستهان بها من أكلاف موازناتها مثل “اليونيسكو” وإسلامية مثل “الإسيسكو” بشكل مقصود ومخطط، مما أدى إلى إضعاف الذراع العربية لصالح تلك غير العربية.
5. إهمال العمل العربي المشترك في التعليم العالي الذي أصبح بعد إنشاء الجامعات الوطنية شبه خامل وغير ذي جدوى ولا يحظى بالاهتمام الذي يستحقه، والذي من شأنه، فيما لو أعطي بعضاً من ذلك الاهتمام الذي ننشده، لأصبح من أهم الأعمدة التي يمكن أن يرتكز عليها العمل التعليمي العربي المشترك، بما في ذلك المناهج التعليمية للمراحل الجامعية التي أصبحت هي الأخرى مغرقة في التفاصيل الوطنية على حساب تلك القومية.
تأسيساً على كل ذلك ينبغي الالتفات إلى التعليم في البلاد العربية، وعلى وجه التحديد في المراحل المبكرة منه والعمل من أجل استعادة مكوناته القومية التي يحتاج لها من أجل بناء قاعدة ذهنية قومية.
ليس المقصود هنا التضحية بالوطني على مذبح ما هو قومي، بقدر ما العمل على الوصول إلى المعادلة الصحيحة التي تضع كلاً منهما في خانته الصحيحة، وتوليه الاهتمام الذي يستحقه وترصد له الموازنة التي يحتاج لها وتنتج المقررات التي يتطلبها.
الأمر ذاته عند الحديث عن التربية الدينية؛ فهي الأخرى بحاجة إلى مثل تلك المعادلة التي توثق عرى التكامل بين الاثنين، فتبرز وتعمق تلك العلاقة التي يتكامل فيها الإيمان الديني بالوعي العربي، ويتجسدان في سلوك ناضج يلتزم بالقيم الدينية الكريمة دون التفريط بالمسؤوليات القومية الملحة.
وأخيراً لا تقع مسؤولية إنجاز هذه المهمة المعقدة على الحكومات العربية وحدها، فهناك أيضاً التعليم الخاص والذي ليس في وضع أفضل من التعليم الحكومي عندما يتعلق الأمر بحل المعادلة التي نتحدث عنها.
المسؤولية مشتركة إن أردنا أن نتمسك بديننا ولا نفرط في مسؤولياتنا الوطنية ولا نهمل التزاماتنا القومية.