«التاريخ في ظاهره لا يزيد عن الإخبار وفي باطنه نظر وتحقيق».. ابن خلدونمن المضحكات المبكيات الحديث عن «السلمية» في موقع العنف المتصاعد المؤطر بالتبرير والتحوير الديني والسياسي والإعلامي، ولا يشبه هذه المفارقة إلا الحديث عن الهزل في موقع الجد، فالتغني بالسلمية مع التأسيس للإرهاب أو تسويقه أو السكوت عنه لا يمكن أن يصنف إلا ضمن مفهوم النفاق السياسي الفج واللاأخلاقي.. تماماً مثل شتم الناس والتطاول عليهم وعلى حرياتهم ومقدساتهم وهوياتهم -تحت عنوان حرية التعبير أو الحق في التعبير- والذي لا يمكن تصنيفه تحت عنوان السلمية، بل لا يمكن أن يصنف إلا تحت عنوان الإرهاب المادي والفكري الأعمى.إن الحقيقة التي تأكدت منذ الأيام الأولى للأحداث ويتم تغييبها حالياً بالنسبة لمفهوم السلمية المسوق سياسياً وإعلامياً، هي إن «هذه السلمية» قد ارتبطت وترتبط إلى اليوم بمفهوم «الثورة - الانقلاب» على الشرعية القائمة، وليس بمفهوم الممارسة الديمقراطية المدنية الشرعية، فمثلما هنالك ثورات مسلحة، فهنالك الثورات السلمية، لذلك فإن المفهوم يجب أن ينظر إليه على أنه جزء من تكتيك ثوري لإنهاك النظام، فتبدأ الحركة بالمظاهرات السلمية التي سريعاً ما تتحول إلى عنف متصاعد بمجرد سقوط ضحايا، وقد تتحول بعد ذلك إلى العسكرة مثلما هو الأمر في الحالتين الليبية والسورية، ومن مظاهر هذه السلمية (التي يمكن أن نسميها بالسلمية العنيفة أو بالسلمية الثورية لأن هدفها النهائي تغيير نظام الحكم ويمكن رصد بعض أشكال عنف السلمية على النحو الجاري في الواقع:أولاً: المظاهرات كمُعبر رئيس عن المكون السلمي للحراك الشعبي، مازالت تنتظم في أكثر من مكان ومناسبة، وتشتد بمجرد سقوط أحد الضحايا (وإن لم تسقط ضحية يمكن تحويل الموت العادي إلى حالة استشهاد للتحشيد)، ويتم نقل صورة هذا الاحتشاد على أنه معبر عن حالة عنف رسمي واضطهاد لا إنساني، ومن ثمة يتم الحرص على الاستمرارية وعدم التراجع مهما كلف الثمن.ثانياً: مواكبة الاحتشاد بتوزيع المنشورات والكتابة على الجدران في كل مساحة يمكن الكتابة عليها لنقل شعارات (السلمية) التي تدور في مجملها حول التسقيط والإساءة إلى السلطة، والعمل على الحط من مكانتها في القلوب والنفوس وتسهيل عملية التطاول عليها وجعلها معتادة بصرياً وسمعياً بين الأجيال الشابة.ثالثاً: الظهور الإعلامي (بما في ذلك الفضائي والإذاعي والاجتماعي) لعدد من الأفراد الذين تم إعدادهم في المعاهد الأمريكية ليكملوا الصورة من خلال التحريض اللفظي والسياسي، وربما اقتضى الأمر اللجوء إلى تغيير الحقائق بشكل منتظم.رابعاً: إكمال الصورة من خلال استغلال المنبر الديني الذي تحول في بعض الأحيان إلى المبرر الرئيس لعنف السلمية المشار إليه وتسويقه أو الدفاع عنه، وبالتالي منحه قدراً معيناً من الشرعية الدينية التي تصبح بمثابة الفتوى في المواجهة مع السلطة..خامساً: الاعتداء المتعمد والمبرمج مسبقاً على رجال الأمن في سياق العمل على كسر صورة رجل الأمن وإضعافه أمام الجمهور، وقد كان واضحاً أن هذا المبدأ الذي يشار إليه في ( دليل الاستخدام) السلمي الذي يدرس في أكاديمية التغيير الأمريكية هو من أكثر المبادئ تنفيذاً على أرض الواقع.سادساً: دمج الخارج في الشأن الداخلي، سواء من خلال التصريحات أو البيانات الإعلامية والسياسية أو من خلال فتح باب الإعلام المعادي ليكون جزءًا لا يتجزأ من هذا الحراك السياسي «السلمي» المنسق له سلفاً مع القوى الخارجية، ليكون بدوره شكلاً آخر من أشكال عنف السلمية.والحقيقة أنه وإذا كانت «السلمية» قد كشفت في بعض الحالات (ليبيا وسوريا) وحشية النظام السياسي غير المحدودة ضد المحتجين الذين تمت مواجهتهم برصاص النظام ووحشيته اللامحدود، فإن السلمية المضللة والتي تم استخدامها في بعض الحالات الأخرى للتمويه فقط، قد كشفت أصحابها، خصوصاً عندما نجحت السلطة في ضبط نفسها وترشيد العنف الرسمي لاستيعاب حالات الاحتجاج، بما في ذلك الاحتجاج العنيف وغير الشرعي في مواجهة سلطة تعمل على إصلاح نفسها وتعزيز الديمقراطية والشراكة بما يجعلها قابلة للتطوير، وبذلك فإنه لن يكون من الممكن تسويق السلمية في هذه الحالة إلا كنوع من العنف حتى وإن كان يرفع شعار السلمية... وللحديث صلة