(1)
أحدث الإعلان الدستوري الأخير للرئيس المصري د. محمد مرسي أزمة جديدة في مصر، الإعلان تضمن جملة من القرارات التي تحفظت عليها القوى المصرية المدنية، لكن الأزمة الحقيقية نجمت من مبدأ (التحصين) الذي أحاط به د. مرسي اللجنة التأسيسية لصياغة الدستور ومجلس الشورى، بل وقراراته القادمة والسابقة بأثر رجعي، مبدأ (التحصين) واجه رفضاً قاطعاً من التيارات المدنية، وواجه تحفظاً من التيارات الدينية التي بررته بسوء الصياغة، أو طلبت إعادة النظر فيه من باب أن الكل يؤخذ من رأيه ويرد وأن الشورى تكليف ديني تتراوح الآراء الفقهية فيه بين الملزم والمستحب.
لسنا هنا بصدد مناقشة هذه القرارات من الناحية السياسية؛ فقد أفاض الإعلام المصري في دراستها رفضاً وتأييداً، لكننا سنقرأ الخلفية الثقافية التي تقف خلف مبدأ (التحصين)، الذي ضرب أول ما ضرب مبدأ دينياً وديمقراطياً أساسياً هو (الشورى)، فقد أعلن جميع نواب الرئيس مرسي ومستشاريه والعديد من الوزراء وأعضاء حزب العدالة والحرية، وجميع القوى الوطنية التي التقاها د. مرسي في الأسبوع الماضي عدم مناقشتهم أو استشارتهم في الإعلان الدستوري أو عرض أي قرار منه عليهم، مما دفع العديد من نواب الرئيس والمستشارين إلى تقديم استقالاتهم، ودعا العديد من المحللين إلى ترجيح خروج الإعلان الدستوري من مجلس (شورى الإخوان) لا من مؤسسة الرئاسة !!
(2)
تعاني العديد من التيارات الإسلامية من السقوط في (فتنة التحصين)، وذلك نتيجة الوقوع في حالة التماهي بين المقدس وحامل المقدس، فالقرآن الكريم ونصوص الأحاديث النبوية الصحيحة هي نصوص مقدسة، أما فهم علماء المسلمين لها وتفسيرها وحتى تطبيقها فليست مقدسة، لكنها أصبحت، في كثير من الأحيان، بحكم التأثير العاطفي مقدسة، فتم الترويج للنصوص الدينية أو المقولات الشائعة التي (تحصن) علماء الدين ترويجاً يحمل في جوهره تعسفاً خطيراً، مثل؛ العلماء ورثة الأنبياء، والفقيه ظل الله في الأرض، والراد على الفقيه كالراد على الله، ولحوم العلماء مسمومة، وحين يتحالف علماء الدين مع الحاكم يصبح الخروج على الحاكم غير جائز شرعاً والواجب هو الدعاء لولي الأمر، فالحاكم يقوم في الأمة مقام النبي، ولا يجوز مناصحته علناً والاعتراض على أمره، وهذه المقولات وإن كان لها وجاهتها وتفسيراتها الصحيحة في سياقاتها الخاصة، إلا أن استخدامها كثيراً ما صار يصب في (تحصين) الأشخاص باسم الدين، ورفع الحصانة عن الآخرين باسم الدين كذلك.
وقد تنبهت التجربة الديمقراطية الغربية في بداياتها إلى خطورة التأثير الديني على الحكم، فقررت فصل الكنيسة عن القصر باسم العلمانية، لا من حيث إن العلمانية منع للحرية الدينية، ولكن من حيث إن العلمانية تحييد للحياة السياسية عن تأثير الكنيسة في اتخاذ القرارات تحت ضغط صكوك الغفران وتوزيع مقاعد في الجنة والنار، ولذلك تقوم التجارب الديمقراطية في دولنا الإسلامية بمنع استخدام الشعارات الدينية أو الدعايا الدينية أو استخدام المساجد والمقرات الدينية في الحملات الانتخابية وهو ما لم تفلح فيه دولنا الإسلامية بعد!
(3)
الأزمة الأخيرة في مصر هي أزمة سياسية تتعلق بصياغة الدستور وصلاحيات الرئيس في المرحلة الانتقالية لكن الماكينة الإعلامية والدعائية للتيارات الإسلامية أخذت تروج شيئاً فشيئاً إلى أن الخلاف في حقيقته هو بين الإسلاميين والعلمانيين وتبنى هذا الخطاب مريدو الجماعات الإسلامية من خارج مصر كذلك، وساء الأمر حتى وصل إلى إلإعلان عن مليونية مؤيدة لقرارات الرئيس مرسي تحت شعار مليونية الشرعية والشريعة، وامتلأت مواقع الإخوان المسلمين والسلفيين في الدعوة لهذه المليونية بشعارات الجهاد والصبر على الأذى في سبيل الله والدفاع عن الهوية الإسلامية لمصر، مما صدم التيارات المدنية بإقحام موضوع الشريعة بعد أن تم الاتفاق على المواد الخاصة بالشريعة في الدستور بالإجماع وبمراجعة الأزهر!!
المشهد السابق يعكس صورة أخرى من صور(التحصين) فأي اختلاف في أمر من أمور الحكم أو الدنيا مع، ما يسمى مجازاً، التيار الإسلامي فهو خلاف شرعي يستوجب استدعاء الدين والتمترس خلف المصطلحات الشرعية والنصوص الدينية المؤيدة لجماعة المسلمين، وسيزداد التحصين تأثيراً إن صح ما يقال عن إصدار د. يوسف القرضاوي بياناً بتأييد الإعلان الدستوري للرئيس مرسي مما سيضيف على البيان هالة القداسة بمرسوم شرعي يشبه الفتوى!
خطاب (التحصين) في حق الرئيس مرسي بدأ منذ توليه الرئاسة حين خرج أنصاره بمقاربات بين خروج النبي يوسف عليه السلام من السجن إلى الحكم وخروج الرئيس مرسي كذلك من السجن إلى الحكم، وحين استحضر الرئيس مرسي هو نفسه في خطابه الأخير لأنصاره حادثة إنقاذ الله سبحانه وتعالى لسيدنا موسى عليه السلام من فرعون في ذكرى عاشوراء مع دعائه بالنصر في قرارته الأخيرة ضد من وصفهم بأنهم يتآمرون على الثورة، ومؤخراً قاس أنصاره، مع الفارق الكبير، بين عزل عمر بن عبدالعزيز لقضاة الحجاج، وعزل الرئيس مرسي للنائب العام، إنها حالة تماهي ومقاربات مع المقدس ومع النموذج الإسلامي أثببت خطورتها على توجيه الرأي العام وإضفاء الحصانة على قرارات الرئيس أدت مع تقدم الأحداث إلى شق الصف المصري شقاً خطيراً لم يحدث قط في تاريخ مصر، كما يصف المحللون!!
(4)
العبرة البحرينية التي نستفيدها من تجربة الأزمة المصرية أن التحول الديمقراطي ليس بالخفة والبساطة التي تطرحها جمعيات المعارضة البحرينية، وأن الممارسة الديمقراطية هي في حقيقتها ثقافة فردية وتنظيمية ودينية، وليست شكليات يحملها صندوق الاقتراع، فقد حمل صندوق الاقتراع إلى السلطة كل من هتلر وبرلسكوني وغيرهم ممن رسخوا الديكتاتورية ومارسوا الفساد في الحكم، وقد حمل صندوق الاقتراع المصري الأزمات للتجربة الديمقراطية المصرية الجديدة لوجود مشكلة حقيقية تعانيها التيارات الدينية في مفهوم الشورى والديمقراطية.
مازلنا في البحرين نذكر جيداً انتخابات 2006 و2010، وكيف تصرفت الوفاق بـ (تحصين) تجاه مرشحيها باستخدام الفتاوى الدينية تجاه ما سمي بالقائمة الإيمانية، أو باستخدام الفتاوى ضد منافسيها من حلفائها في الجمعيات القومية واليسارية، مازلنا نذكر حملات التكفير والتشهير، مازلنا نذكر شكوى د. حسن مدن العلنية وغيره ممن رشحوا أنفسهم في دوائر الوفاق وكيف أعلنوا فض التحالف بسبب ممارسات الوفاق غير الديمقراطية، مازلنا نذكر كيف أغلقوا دوائرهم على مرشحيهم ولم يمنحوا حلفاءهم المهمين من وعد أي دائرة، وتركوهم يغيرون عناوينهم في كل جولة انتخابية بين الدوائر السنية من المنامة إلى المحرق إلى مدينة عيسى حيث لا شعبية لهم.
ومبدأ (التحصين) هو الأساس في التعامل مع عمائم الوفاق، فلا نقاش ولا محاسبة ولا مساءلة عن المسار الذي اقتادت الوفاق الوطن وجماعتها إليه، بل هناك تبرير وصمود خلف قرارات الوفاق (المحصنة) برضا المرجعية، وفتاوى عيسى قاسم بالسحق التي تعد تحريضاً على القتل إنما هي ضرورات لها ألف تفسير غير ما يفهمه العامة من أمثالنا، وأي مناقشة من الطرف الآخر لشخوص أمثال علي سلمان وعيسى قاسم فهي تجاوزات تستوجب إقامة صلاة جامعة خلف عيسى قاسم تأكيداً على القداسة الدينية التي تمثلها المرجعية في مواقفها السياسية وإن استدعى الأمر إلى السعي على الأقدام من المناطق البعيدة، وتستدعي، كذلك، مسيرات شرعية تحت شعار(لبيك يافقية) تقدم فيها قرى البحرين فروض الولاء والطاعة والسمع في المغرم والمغنم للشيخ (القائد) عيسى قاسم، فبأي ديمقراطية يبشرونا وأي دولة مدنية ننتظر منهم؟!
(5)
كنا نتمنى من تجارب الأحزاب والجماعات التي، خصت نفسها بصفة الإسلامية، أن تترجم لنا قيم الإسلام الهامة في الحكم، مثل الشورى والأمانة العدل والمساواة والرقابة والمحاسبة والشفافية، وتنظيم العلاقة بين الحاكم والمحكوم، وحفظ الحقوق، والتوزيع العادل للثروة وحفظ المال العام، وحفظ وحدة المسملين ودمائهم وعصمتهم من الفتن، لا أن تنساق هذه الأحزاب في بداية توليها السطلة خلف الصراعات الفكرية، وخلف الاهتمام برقابة المجتمع وتطبيق الحدود فيه، وخلف تصنيف الناس بين مؤمن وعلماني، كنا ننتظر من الأحزاب الإسلامية أن تعمل لصالح كافة المواطنين لا أن تعمل وفق غاية (التمكين) لها ولأنصارها في مؤسسات الدولة، في الوقت الذي تغرق فيه مجتماعاتنا الإسلامية في الجهل والفقر والمرض والأمية والطبقية والبطالة!!
إن مبدأ (التحصين) هو إلغاء للعقل النقدي الذي غُيب طويلاً في الثقافة الإسلامية زوراً وبهتاناً باسم الدين والعلماء وولاة أمر المسلمين، وهو مصادرة للممارسة الديمقراطية لأنه نتاج فكر إقصائي يرى في نفسه أنه يستحوذ على الحقيقة التي لا تعيها العامة الذين ليس لهم من الأمر شيء إلا السمع والطاعة لله ورسوله ولأولي الأمر منهم، حسب تفسير المحصَّنين، ودون مراجعة أو مساءلة أو محاسبة، إن تيار الإسلام السياسي بحاجة إلى وقفة سريعة مع الذات وتجاوز مفهوم (التحصين) والتحرر من حالة التماهي مع المقدس ومن روح الوصاية التي يحملونها تجاه الآخر كي يطوروا تجربتهم الديمقراطية دون صدام مع باقي التيارات ، وكي يعصموا عامة المسلمين من فتنة الدين والاقتتال بسببه.